الخميس, 08 مايو, 2025


ميناء جبل علي: أكبر ميناء بناه الإنسان عبر التاريخ
تقرير حصري مايو, 2025
سعادة سلطان أحمد بن سليم
« من 4 »

عبر التاريخ، لم تكن البنية التحتية مجرد انعكاس لنشاط اقتصادي قائم، بل أداة لإعادة تشكيل الواقع الاقتصادي ذاته، إنشاء ميناء في منطقة شبه خالية، بعيداً عن المراكز الحضرية، لا يعكس فقط استثماراً في حركة التجارة، بل يعبر عن مفهوم عميق يرى أن القيمة تنشأ من القدرة على التحكم بمسارات التدفق التجاري وصياغة خرائط جديدة للأسواق…
ميناء جبل علي لم يكن استجابة لحاجة طارئة، بل تعبيراً عن فهم استراتيجي لطبيعة الاقتصاد العالمي الناشئ، حيث لا تكتفي الدول بالتكيف مع شبكات التجارة، بل تسعى لصناعتها، وقد كان المشروع استباقاً لمنظومات اقتصادية لم تكن قد تبلورت بعد، ورهاناً مدروساً على المستقبل حين كان معظم العالم ينظر إلى الصحراء على أنها حدود نهائية لا بوابات جديدة، وبهذا الإدراك الاستباقي، تأسس ميناء جبل علي ليكون ليس فقط مركزاً لرسو السفن، بل منصة لإعادة رسم التوازنات الاقتصادية بين الشرق والغرب.

بدأت قصة جبل علي في سبعينيات القرن العشرين، في وقت كانت فيه منطقة الشرق الأوسط تعتمد على بضعة موانئ تقليدية كمراكز للتجارة البحرية آنذاك، وكان ميناء عدن محطة تزود بالوقود عند مضيق باب المندب، وميناء بيروت يُلقب “بوابة الشرق الأوسط” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فيما خدم ميناء جدة تجارة السعودية وحجاجها، وموانئ بورسعيد والإسكندرية جسّدت شريان مصر عبر قناة السويس، ومع الوقت تعرضت هذه الموانئ لتحديات من حروب وعدم استقرار سياسي أو تقادم البنية التحتية وبلوغ طاقتها القصوى، وفي خضم هذه الظروف، بزغت دبي برؤية طموحة تسعى لسد الفجوة وخلق مركز بحري جديد يتجاوز تلك التحديات، وهنا ظهر معدن الطموح في فكر حاكم دبي آنذاك الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي خطط لإنشاء ميناء من الصفر في منطقة جبل علي النائية.

النشأة والرؤية

في عام 1976، اتخذ الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي كان حاكم دبي حتى عام 1990، قراراً تاريخياً بوضع حجر الأساس لميناء عملاق على بعد 35 كيلومتراً جنوب غرب مدينة دبي. جاء القرار بعد أن وصل ميناء راشد (الذي افتُتح عام 1972) إلى طاقته الاستيعابية خلال سنوات قليلة بسبب تزايد حركة التجارة، ورأى الشيخ راشد أن مستقبل دبي الاقتصادي يعتمد على إنشاء ميناء يتجاوز حدود المألوف في حجمه وقدراته، وقد اختار الموقع الصحراوي في جبل علي ورسم ملامح مشروع طموح لميناء بحري عملاق يكون رافعة للتنمية الصناعية والتجارية للإمارة. استمرت أعمال البناء أربع سنوات تقريباً، بينما تم الانتهاء من أول مسارين خلال ثمانية عشر شهراً فقط، في إنجاز لافت بالنظر إلى حجم المشروع وتعقيداته.

ورغم تشكيك العديد من التجار ورجال الأعمال آنذاك بجدوى المشروع، بل وحتى تخوفهم من ضخامة حجمه وكونه يتجاوز احتياجات دبي المحدودة حينها، فقد روى الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، في مقابلة صحفية أجراها، قصة شخصية عن عدد من كبار تجار دبي الذين قالوا له: “نعرف أن لك مكانة خاصة عند والدك، وأنه يسمح لك بمفاتحته في الأمور الكبيرة، نرجوك أن تخبره بأن لدينا ميناءً كبيراً (ميناء راشد)، وهو يكفينا، وأن بناء ميناء جديد في جبل علي سيضع البلد في حالة ركود ويلحق بها خسائر كبيرة”، وعندما سألهم لماذا لم يبلغوا والدَه مباشرةً، أجابوا بأنهم خجلوا من الاعتراض أمام الشيخ راشد، فما كان من الشيخ محمد إلا أن نقل لوالده الرسالة، وبعد لحظة صمت، التفت إليه الشيخ راشد قائلاً: “يا محمد، إني أبني هذا الميناء لأنه يمكن أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على بنائه”.

لقد كان الشيخ راشد، ببصيرته ورؤيته البعيدة، يدرك أن أي دراسة اقتصادية في ذلك الوقت كانت ستوصي بعدم تنفيذ المشروع بسبب كلفته العالية وضخامته، لكنه أصر على المضي قدماً متحملاً المخاطر، وهو ما تحققت صحته لاحقاً حين تحول الميناء إلى واحدة من أكبر قصص النجاح في المنطقة، وجعل من دبي مركزاً تجارياً عالمياً.

انطلقت أعمال البناء في ميناء جبل علي على قدم وساق أواخر السبعينيات، وتطلّبت المهمة عمليات جرف وردم بحري هائلة لصنع حوض ميناء عميق ومساحات أرصفة واسعة من العدم، ولم تقتصر الرؤية على المنشأة المائية فحسب، بل تم بناء قرية سكنية جديدة بالكامل لإيواء آلاف العمال الذين توافدوا للمشاركة في تشييد هذا المشروع العملاق، وخلال أقل من ثلاث سنوات من العمل الدؤوب، تحوّل الحلم إلى واقع؛ ففي فبراير 1979 تم افتتاح ميناء جبل علي رسمياً في حفل حضرته ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، وبدأ الميناء الجديد العمل بطاقة تفوق ما خطط له أصلاً، إذ احتوى على نحو 15 رصيفاً وقدرة استيعاب سفن من الأكبر حجماً آنذاك، متجاوزاً بكثير الحجم الأولي المقترح للمشروع، حيث كان الهدف أن يعمل جبل علي كمتمم لميناء راشد بحيث يضاعف قدرة دبي على مناولة البضائع ويضع الإمارة على خارطة المراكز البحرية.

رغم أن حركة السفن والبضائع في سنوات الميناء الأولى كانت دون سعته الضخمة، إذ بُني الميناء بحجم يتجاوز الاحتياج الفوري تحسباً للمستقبل، إلا أن هذه السعة الكبيرة عكست إيمان الشيخ راشد بالبناء للمستقبل لا للحاضر فقط، وما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأت حركة الميناء تتسارع بوتيرة عالية، مؤكدة صواب الرؤية البعيدة المدى، ولتعظيم الاستفادة من إمكانات جبل علي، أنشأت دبي في عام 1985 المنطقة الحرة بجبل علي (JAFZA) بجوار الميناء، قدمت هذه المنطقة الحرة مزايا استثمارية للشركات الدولية، من بنية تحتية حديثة وإعفاءات ضريبية، مما جذب مئات الشركات لإنشاء مقار ومستودعات ومصانع بالقرب من الميناء للاستفادة من سهولة الاستيراد والتصدير وإعادة التصدير، ​و قد أثبت التكامل بين الميناء العميق والمناطق الحرة فعاليته الكبيرة، حيث شهد ميناء جبل علي مع نهاية الثمانينيات ارتفاعاً هائلاً في النشاط أطاح تماماً بفكرة كونه “ميناء في الصحراء” لا جدوى منه​، ورسّخ جبل علي موقعه كبوابة رئيسية للتجارة في الخليج العربي، وانطلقت دبي بفضله نحو عقود جديدة من النمو والتنوع الاقتصادي.

النمو والمحرك الاقتصادي

على مدى العقود التالية، ومع تولّي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الحكم وما عُرف به من دفع مسيرة النمو والتطوير الاقتصادي والانفتاح على التجارة العالمية، شهد ميناء جبل علي نمواً استثنائياً في الحجم والأداء، وتوسعت منشآته باستمرار بإضافة أرصفة جديدة ورافعات حديثة لمواكبة تصاعد الطلب، وبحلول أوائل الألفية الجديدة برز جبل علي ضمن أكثر موانئ العالم ازدحاماً. سجل ميناء جبل علي في عام 2005 مناولة نحو 7.6 مليون حاوية مكافئة (وحدة قياس تعادل حاوية بطول 20 قدماً) خلال سنة واحدة، مما وضعه حينها بين أكبر 10 موانئ حاويات عالمياً، ولم يتوقف النمو عند ذلك الحد، فبعد عامين فقط، قفز ترتيبه إلى السابع عالمياً من حيث حجم المناولة عام 2007، كما واكبت إدارة الميناء هذا التسارع عبر رفع طاقته الاستيعابية، كما تم افتتاح محطة الحاويات رقم 2 بحلول 2008، ثم محطة رقم 3 العملاقة في 2014 التي كانت من أكبر المحطات شبه المؤتمتة في العالم، وبفضل هذه التوسعات بلغت القدرة الاستيعابية لجبل علي قرابة 19 مليون حاوية مكافئة سنوياً منتصف عقد 2010، وقد سجّل عام 2015 ذروة تاريخية في حركة الميناء بحوالي 15 مليون حاوية مكافئة خلال العام.

لا تقتصر أهمية جبل علي على الأرقام فحسب، بل تظهر أيضاً في ضخامة بنيته المادية، فالميناء ومرافقه الحرة يمتدان على مساحة تُقدّر بحوالي 134  كيلومتر مربع​، ويضم الميناء أكثر من 67  رصيفاً تمتد على طول 25 كيلومتر من السواحل، ​وغالباً ما يُشار إلى ميناء جبل علي كونه أكبر ميناء من صنع الإنسان في العالم​، بقدرته على استقبال أضخم السفن على الإطلاق، بدءاً من سفن الحاويات العملاقة وناقلات النفط وصولاً إلى حاملات الطائرات، ويتصدر جبل علي المشهد بلا منازع، إذ يتعامل مع حجم بضائع يعادل ما تُناوله عدة موانئ إقليمية مجتمعة​ ويخدم الميناء سوقاً شاسعة تتجاوز حدود الإمارات، تمتد عبر الخليج والشرق الأوسط وشبه القارة الهندية وشرق إفريقيا، يصل مجموع سكانها إلى نحو 1.5 مليار نسمة​، و هذا الانتشار الواسع جعل منه عصباً لوجستياً أساسياً يربط اقتصادات تلك الدول بحركة التجارة العالمية.

تكامل الميناء والمنطقة الحرة لرسم ملامح اقتصاد عالمي

أسهم التكامل بين الميناء والمنطقة الحرة في جبل علي في تعظيم الأثر الاقتصادي للميناء على دبي ودولة الإمارات عموماً فمع حلول أواخر العقد 2010، استقطبت منطقة JAFZA آلاف الشركات العالمية (يزيد عددها عن 7000 شركة من أكثر من 100 دولة)​ بعد أن بدأت بنحو 500 شركة فقط عند تأسيسها في 1985​، ويشمل هذا المجتمع الاقتصادي شركات صناعية وتكنولوجية ولوجستية تتخذ من المنطقة الحرة مقراً إقليمياً، مستفيدة من اتصال الميناء بشبكة شحن عالمية لنقل منتجاتها إلى الأسواق المحيط، ووفق دراسة اقتصادية لعام 2019 أجرتها مجموعة بوسطن الاستشارية، تبين أن ميناء جبل علي والمنطقة الحرة المحيطة به يساهمان بحوالي 33% من الناتج المحلي الإجمالي لإمارة دبي​،  ويوفران أكثر من 450 ألف فرصة عمل بما يعادل سدس القوى العاملة في الإمارة​ كما تعالج بوابات جبل علي نحو 40%  من إجمالي تجارة دبي الخارجية من واردات وصادرات​، وما يبرز دوره المحوري في تنويع اقتصاد دبي بعيداً عن النفط وتحويلها إلى مركز تجاري عالمي، وهذه الإنجازات دفعت سلطان أحمد بن سليم، رئيس مجلس إدارة شركة موانئ دبي العالمية (المشغل لميناء جبل علي)، إلى التأكيد بأن التجارة كانت ولا تزال محرك نمو دبي الأساسي، وأن ميناء جبل علي مثال حي على كيفية أن الموانئ عالمية المستوى تقود ازدهار الدول.​

تجاوز الأزمات…التعافي والتفوق

لم تكن مسيرة جبل علي خالية من التحديات، فبعد ذروة منتصف العقد الماضي، شهد الميناء تباطؤاً طفيفاً وتراجعاً في النمو متأثراً بظروف اقتصادية إقليمية وتنامي المنافسة الإقليمية، لكنه حافظ رغم ذلك على معدلات عالية تفوق 14 مليون حاوية سنوياً،  ومع وقوع جائحة كوفيد-19 عام 2020 وتعطل سلاسل الإمداد العالمية، تراجع حجم المناولة قليلاً إلى قرابة 13.5 مليون حاوية في 2020-2021، إلا أن الميناء برهن مجدداً على مرونته مع عودة النمو سريعاً بعد الجائحة، ففي عام 2022 استعاد مستوى 14 مليون حاوية، ثم حقق قفزة جديدة عام 2024 بوصوله إلى 15.5  مليون حاوية مكافئة خلال العام​ ، وهذا الرقم يمثل أعلى حجم مناولة سنوي للميناء في ما يقرب من عقد، متجاوزاً حتى مستويات ما قبل الجائحة، وبزيادة 7% عن العام السابق​،  وبذلك عاد جبل علي بقوة إلى قائمة أكبر 10 موانئ حاويات في العالم لعام 2024، والجدير بالذكر أن حجم المناولة هذا (15.5 مليون حاوية) يشكل حوالي 18% من إجمالي حركة الحاويات في شبكة موانئ دبي العالمية التي تدير ما يفوق 90 محطة حول العالم​، مما يبرز الثقل النسبي لميناء جبل علي ضمن الشبكة الدولية لشركة الموانئ الإماراتية، وإلى جانب الحاويات، سجّل الميناء في 2024 أيضاً أرقاماً قياسية في مناولة البضائع العامة والسائبة (أكثر من 5.4 مليون طن متري من الشحنات الضخمة)، وشملت معدات صناعية ومواد بناء ومكونات لمشاريع الطاقة المتجددة، مما يعكس تنوع البضائع التي يتعامل معها وقدرته على دعم مشاريع التنمية في المنطقة، وتبلغ الطاقة الاستيعابية الراهنة للميناء حوالي 19.4 مليون حاوية عبر أربع محطات وما يزيد عن 100 مرسى، مما يعني وجود مجال لمواصلة النمو دون اختناقات كبيرة في المدى القريب، كما توجد خطط لتوسعة إضافية عبر إكمال محطة رابعة جديدة سترفع الطاقة الكلية إلى أكثر من 22 مليون حاوية سنوياً​، بما يكفل استمرار قدرة الميناء على تلبية الطلب المستقبلي المتصاعد.

« من 2 »
البعد الإنساني وتجليات العولمة

لا يمكن النظر إلى ميناء جبل علي كمجرد مشروع تجاري صرف؛ فهو أيضاً قصة جهد إنساني واجتماعي وكيف يمكن للبنية التحتية أن تعيد تشكيل مصير مدينة ودولة، والآلاف ممن عملوا في بناء وتشغيل الميناء عبر العقود وجدوا فيه مصدر رزق ومجتمعاً نابضاً بالنشاط، وتحول شريط الصحراء الساحلي الهادئ في جبل علي إلى مركز حيوي يعجّ بالحركة، مما يدل على قوة الرؤية والتخطيط بعيدة المدى في إحداث تغيير جذري في حياة الناس ومحيطهم​، لقد ساهم الميناء والمنطقة الحرة حوله في خلق مجتمع اقتصادي متنوع الثقافات، حيث تعمل جنسيات شتى جنباً إلى جنب في مشهد يعكس التنوع الإنساني الذي جاءت به العولمة، وفي سياق تطوير الميناء بقي الاهتمام بالابتكار والتحديث حاضراً كمبدأ أساسي، واستخدم ميناء جبل علي مر السنين كحقل اختبار لتقنيات جديدة في إدارة الموانئ، فكان من أوائل الموانئ التي أدخلت الرافعات الآلية وأنظمة الإدارة الرقمية لتحسين الكفاءة التشغيلية​، ومؤخراً تصدّر عناوين الابتكار عالميًا باعتماده نظامBoxBay  للتخزين الرأسي للحاويات، وهو ابتكار يسمح بتكديس الحاويات حتى ارتفاع 11 طابقاً في بنية رفوف آلية​، مما يرفع سعة التخزين في ساحة الميناء ويخفض استهلاك الطاقة في الوقت نفسه، كما يجري اعتماد مركبات ذاتية القيادة لنقل الحاويات داخل الميناء ومنصات رقمية متطورة لتنسيق العمليات اللوجستية.

ويتجاوز تأثير جبل علي نطاق التجارة ليشمل بعداً إنسانيًا عالمياً يتمثل في دوره كمركز لدعم الجهود الإغاثية، فقد تم نقل مقر المدينة الإنسانية العالمية في دبي إلى منطقة قريبة من الميناء، مما عزز بشكل ملحوظ قدرة الاستجابة لحالات الطوارئ الإنسانية​، وبفضل قرب الميناء من مطار آل مكتوم الدولي كذلك، أصبح بالإمكان شحن المواد الإغاثية جواً وبحراً بسرعة قياسية، وهذا الموقع الاستراتيجي مكّن منظمات الإغاثة كالمفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) وغيرها من إيصال المساعدات إلى مواقع الأزمات خلال 72 ساعة فقط من حدوثها​ وهكذا برزت دبي عبر ميناء جبل علي ومحطاته اللوجستية كمحور أساسي في شبكة الإغاثة الدولية، حيث تنطلق منها مواد الإيواء والإمدادات الطبية والغذائية إلى مختلف بقاع العالم عند وقوع الكوارث، وهذا الدور الإنساني يؤكد أن للموانئ وجهاً آخر غير الربح الاقتصادي، وجهًا يعكس التضامن الإنساني العالمي عندما تسخر قدرات الخدمات اللوجستية للتخفيف من معاناة المنكوبين في أي مكان، وبذلك أصبح ميناء جبل علي رمزًا لتلاقي المصالح الاقتصادية مع القيم الإنسانية.

على صعيد آخر، يُمكن اعتبار ميناء جبل علي تجسيداً مادياً للعولمة ذاتها، حيث​ تقوم في الميناء عمليات إعادة توزيع للبضائع (ترانزيت) بين السفن العملاقة العابرة للمحيطات والسفن الأصغر التي تنقل الشحنات إلى الموانئ الإقليمية في الخليج وشبه القارة الهندية وشرق إفريقيا، على سبيل المثال قد يتم تفريغ حاويات قادمة من شرق آسيا في جبل علي ثم تُنقل على متن سفن أصغر إلى موانئ في عُمان أو باكستان أو كينيا، هذا النموذج التشغيلي “المحوري” ضاعف من نطاق تأثير الميناء، بحيث لا تقتصر خدماته على السوق المحلي بل تمتد عبر قارات.

« من 3 »
التحديات والتكيّف

في ظل البيئة التجارية العالمية الراهنة، يواجه ميناء جبل علي فرصاً واعدة وأيضاً تحديات مستمرة، كما تعمل دولة الإمارات على تعزيز الترابط الداخلي عبر مشاريع مثل شبكة السكك الحديدية الوطنية التي سيتم ربطها بالميناء، مما يسهل نقل البضائع براً إلى أسواق الخليج ويعزّز مكانة جبل علي كمحور متعدد الوسائط. كذلك تسلّط مبادرات دولية مثل مبادرة الحزام والطريق الصينية الضوء على موانئ دبي كمحطات إقليمية رئيسية تربط الشرق بالغرب​، ولكن في المقابل هناك منافسة متزايدة من موانئ صاعدة في المنطقة، فدول مثل السعودية بميناء الملك عبد الله الجديد على البحر الأحمروسلطنة عُمان بميناءي صلالة والدقم تستثمر بكثافة لتطوير موانئ حديثة قد تنافس جبل علي على حركة الترانزيت والتجارة الإقليمية، وعلى الصعيد العالمي توجد منافسة من موانئ كبرى مثل ميناء شنغهاي في الصين بحجم تداول يقارب 50 مليون حاوية سنوياً​، وميناء سنغافورة بنحو41 مليون حاوية سنوياً​، وميناء نينغبو-تشووشان في الصين بنحو 35 مليون حاوية سنوياً​، وحتى ميناء روتردام في هولندا بنحو 13.5 مليون حاوية سنوياً​، وأضف إلى ذلك التطورات المستمرة في صناعة النقل البحري، مثل بناء سفن حاويات أكبر حجماً، أو تغيير أنماط التجارة بسبب التحولات الجيوسياسية، مما يفرض على جبل علي مواكبة هذه المتغيرات كي يحافظ على موقعه الريادي، ولا ننسى أيضاً التقلبات الاقتصادية العالمية التي قد تؤثر على حجم التجارة، من أزمات مالية أو أسعار الوقود وغيرها.

للتعامل مع هذه الظروف، انتهجت إدارة ميناء جبل علي استراتيجيات مرنة تضمن الحفاظ على جاذبيته وكفاءته، فإلى جانب التوسعات المادية التي ذكرناها، ركز الميناء على تنويع أنشطته بحيث لا يبقى اعتماده الكلي على قطاع واحد (كالحاويات فقط)، بل أصبح أيضاً مركزاً لمناولة البضائع العامة والمركبات ومواد المشاريع الضخمة، كما تم الاستثمار بقوة في البنية الرقمية ومنصات إدارة البيانات لضمان سلاسة العمليات وزيادة الشفافية والكفاءة في سلسلة الإمداد، وبالتوازي مع ذلك، يواصل الميناء تطوير قدرات كوادره البشرية وتأهيلها للتعامل مع أحدث التقنيات، لضمان أن تبقى القوى العاملة عنصر دعم وليس عائقاً أمام التحديث المستمر، ومن الدروس التي يضعها الميناء نصب عينيه أن الاستقرار في عالم التجارة أمر نسبي، فدوام الحال من المحال في بحر الاقتصاد العالمي المتقلب، وكما عبّر رجل الأعمال اليوناني أرسطو أوناسيس ” علينا أن نحرّر أنفسنا من الأمل بأن البحر سيهدأ يوماً ما، بل علينا أن نتعلّم الإبحار وسط الرياح العاتية”، هذا المبدأ يتبناه القائمون على جبل علي عبر تعزيز القدرة على الإبحار وسط “رياح” التغيير​،  فالميناء اليوم يعمل على عدة جبهات ليضمن مرونته، من تبني أحدث التقنيات اللوجستية (كالذكاء الاصطناعي في إدارة الموانئ) إلى الحفاظ على كفاءة العمليات حتى في أوقات الأزمات، مروراً بتطوير شراكات جديدة تجارياً ولوجستياً والهدف من كل ذلك أن يبقى جبل علي مرفأً مستقراً في بحر مضطرب، يؤدي دوره كمحور للتجارة مهما اشتدت التقلبات في المشهد العالمي.

ومع توجه العالم نحو تبني معايير أكثر صرامة في الاستدامة البيئية، يخطو ميناء جبل علي خطوات واثقة ليكون ضمن طليعة الموانئ الخضراء، إذ يتبنى الميناء برامج للحد من البصمة الكربونية عبر التحول إلى معدات أكثر كفاءة وأقل تلويثاً واستخدام مصادر طاقة نظيفة، على سبيل المثال، من المتوقع زيادة الاعتماد على الطاقة الشمسية لتشغيل أجزاء من مرافق الميناء، واستخدام الوقود الحيوي والمركبات الكهربائية في عمليات النقل الداخلي، كما أن تقنيات مثل نظام التكديس الرأسي BoxBay  تُسهم ليس فقط في زيادة السعة بل أيضاً في تقليل استهلاك الطاقة والمساحة​، مما يبرهن على إمكانية الدمج بين الكفاءة التشغيلية والحفاظ على البيئة، ومع كون صناعة الشحن البحري العالمية نفسها تتجه نحو سفن أقل تلويثاً (باستخدام الغاز المسال أو الوقود منخفض الكبريت)، فإن ميناء جبل علي يواكب هذه التحولات بتحديث تجهيزاته ليستقبل الجيل الجديد من السفن واحتياجاتها، وكذلك يشارك الميناء في مبادرات إقليمية ودولية للحفاظ على البيئة البحرية المحيطة وضمان أن يبقى نموه الاقتصادي متناغماً مع المسؤولية البيئية.

من ناحية أخرى، يستشرف الميناء المستقبل بتخطيط استثمارات استراتيجية تبقيه من بين الأكثر كفاءة عالمياً، فإلى جانب التوسعة المرتقبة لقدراته الاستيعابية لما فوق 22 مليون حاوية سنوياً، تركز الخطط على رفع سوية الأداء عبر التحول الرقمي الكامل وإدماج التقنيات الحديثة في كل مفاصل العمل، من أنظمة إدارة السفن وجدولة الرسو إلى الخدمات الجمركية واللوجستية، هذا التحول سيجعل العمليات أسرع وأكثر شفافية، ما يعزز جاذبية جبل علي لدى خطوط الملاحة والشركات، كما يستمر الدعم الحكومي من قيادة دبي الاتحادية والمحلية في تمكين الميناء، سواء عبر سياسات تجارية منفتحة أو استثمارات في البنية التحتية الداعمة (كالطرق والقطارات)، لضمان بقاء جبل علي نقطة اتصال أساسية بين سلاسل التوريد الآسيوية وأسواق الشرق الأوسط وإفريقيا وغيرها، ومع صعود بعض اقتصادات الدول النامية، سيكون للميناء دور أكبر في دمج تلك الاقتصادات في منظومة التجارة العالمية، عبر توفير منفذ موثوق وفعّال للوصول إلى الأسواق الدولية.

إن حكاية ميناء جبل علي ليست مجرد سرد لتطور منشأة بحرية، بل هي ملحمة اقتصادية وإنسانية وفلسفية عن قدرة الإرادة البشرية على إعادة رسم خارطة الواقع في عالم مترابط، فمن فكرة جريئة وُلدت في الصحراء في سبعينيات القرن الماضي، إلى مكانة راسخة اليوم كواحد من أهم الموانئ العالمية، ويجسد جبل علي مبدأً عميقاً مفاده أن التخطيط والبصيرة والإصرار يمكنهما حرفياً تغيير الجغرافيا ورسم مسارات جديدة للاقتصاد، وقد ساهم الميناء في تحويل دبي من مدينة خليجية صغيرة قبل عقود إلى مركز تجاري عالمي متنوع الاقتصاد، وهذا بحد ذاته تغيير جذري في مصير المدينة وسكانها، وفي الوقت ذاته، يتجاوز رمز جبل علي حدود دبي والإمارات ليعبر عن صورة مصغرة للعولمة بمفاهيمها الإيجابية، التعاون والترابط وتبادل المنافع بين الأمم، فعلى أرصفة هذا الميناء تلتقي سفنٌ من كل مكان في العالم​، مما يذكرنا بأننا جميعاً شركاء في الاقتصاد العالمي ومصائرنا مترابطة عبر التجارة والتعاون، ومع كل حاوية تُنقَل عبره وكل سفينة ترسو في مياهه، يستمر جبل علي في كتابة فصل جديد من فصول التكامل العالمي، مؤكداً أن رؤية الإنسان وقدرته على الابتكار قادرة على صنع المعجزات، وحتى على جمع العالم في ميناء واحد.