
البدايات والتأسيس
نشأت فكرة مدينة دبي للإعلام في أواخر تسعينيات القرن العشرين ضمن رؤية الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتحويل دبي إلى عاصمة إعلامية في الشرق الأوسط. في تلك الفترة، كانت البنية الإعلامية في دبي محدودة ومحلية الطابع، حيث لم يكن هناك سوى صحيفة “البيان” وعدد قليل من المجلات المحلية مثل “الأسرة العصرية” و”الرياضة والشباب”، بالإضافة إلى إذاعتين AM وFM أما على صعيد التلفزيون، فقد بدأ البث في دبي عام 1969 تحت اسم “تلفزيون الكويت من دبي” بدعم من دولة الكويت، واستمر حتى عام 1971 عندما تحول إلى “تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من دبي”، واستمر البث بالأبيض والأسود حتى عام 1974، في تلك الفترة، كانت المراكز الإعلامية العربية متمركزة خارج المنطقة العربية، في مدن مثل لندن وقبرص وباريس نتيجة لهجرة العديد من المؤسسات الإعلامية بسبب الاضطرابات السياسية، مثل الحرب الأهلية في لبنان، وهذا الواقع دفع دبي للتفكير استراتيجياً في استعادة الدور الإعلامي العربي داخل المنطقة.
بدأت الخطوات التمهيدية بتحركات مبكرة لتعزيز المشهد الإعلامي المحلي والإقليمي، حيث أُسس نادي دبي للصحافة عام 1999، وتم إطلاق جائزة الصحافة العربية، إلى جانب تنظيم منتدى الإعلام العربي هذه المبادرات كانت بمثابة أرضية تأسيسية لتحفيز التفاعل الإعلامي وجذب الاهتمام نحو دبي كمركز للنشاط الإعلامي، وفي ظل هذه التحضيرات، تبلورت فكرة إنشاء منطقة حرة للإعلام تُجمع فيها المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها ضمن بيئة حديثة وتحت مظلة تنظيمية مرنة.
تجسدت الفكرة عملياً بإطلاق مدينة دبي للإعلام رسمياً في يناير 2001 سبقتها بقليل إطلاق مدينة دبي للإنترنت عام 2000 في نفس المنطقة (منطقة الصفوح على شارع الشيخ زايد)، بحيث تكامل المشروعان جغرافياً وفكرياً فقد أدركت القيادة مبكراً تلازم التطورات في قطاعي الإعلام والتكنولوجيا، فتم إنشاء مدينة الإعلام بمحاذاة مدينة الإنترنت لاستباق التحولات الرقمية المتوقعة في العقدين التاليين وكما أوضح معالي محمد القرقاوي الذي كُلِّف بتأسيس مدينة دبي للإعلامأواخر التسعينات كانت حقبة تغيّرات متسارعة، مع بدايات انتشار الهواتف المحمولة والإنترنت، وكان متوقعاً حدوث طفرة في قطاعي الإعلام والتكنولوجيا خلال 10 إلى 20 سنة، وبناءً على ذلك جاءت مدينة دبي للإعلام لتواكب هذا التحول وتؤسس لمنصة إعلامية رقمية مستقبلية في المنطقة.
عند الافتتاح الرسمي للمدينة الإعلامية في عام 2000-2001، حدد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم جملة من الأهداف الطموحة للمشروع، من أبرزها أن تكون دبي حاضنة لعودة الإعلام العربي المهاجر إلى أرض المنطقة، بحيث يعبر عن الكلمة العربية بحرية على الأرض العربية، كما سعت الرؤية إلى خلق صناعة إعلامية متفتحة وواعية تقدم رسالة متطورة، وتحويل دبي إلى ملتقى للعقول الإعلامية ورواد الأعمال والمحترفين المستقلين في المجال هذا التصور يعكس بُعداً فلسفياً عميقاً لدور الإعلام كرافد للهوية الثقافية العربية ووسيلة لنهضة مجتمعية قائمة على حرية التعبير الواعية، وبهذه الرؤية أرادت دبي أن تثبت أن مدينة عربية ناشئة قادرة على منافسة المراكز الإعلامية العالمية، من خلال توفير الحرية والبنية التحتية المتطورة لجذب المواهب والمؤسسات الإعلامية الدولية.
تجدر الإشارة إلى أن تمويل المشروع كان مختلفاً عن الأساليب الحكومية التقليدية في المنطقة، فقد تبنى الشيخ محمد بن راشد نهجاً استثمارياً ريادياً، حيث وجّه فريق العمل لاقتراض رأس المال التأسيسي بدلاً من الاعتماد على تمويل حكومي مباشر، وبالفعل تم تأمين قرض بقيمة 200 مليون دولار من بنك HSBC لتمويل إنشاء مدينة الإنترنت ومدينة الإعلام معاً، وكان الهدف إثبات الجدوى الاقتصادية للمشروع وتشغيله بمنطق تجاري، ويذكر معالي القرقاوي أنه شعر بضغط كبير حيال الاقتراض بهذا المبلغ لمشروع غير مسبوق وفي منطقة كانت حينها على أطراف المدينة ، لكن الرؤية كانت واضحة ” استثمار اليوم لتحصد دبي اقتصاداً معرفياً مزدهراً غداً”، وبالفعل خلال أقل من عقد اندرجت المدينة الإعلامية ومثيلاتها تحت مظلة شركات دبي القابضة منذ العام 2004 وضمن مجموعة تيكوم المتخصصة في قطاعات الإعلام والتكنولوجيا والمعرفة منذ العام 2006 ونمت الأصول والمشاريع المنبثقة لتبلغ قيمتها الإجمالية حوالي 100 مليار درهم بعد سنوات مما يدل على نجاح الرهان الاستثماري طويل الأمد.
الدوافع ….
الدوافع السياسية
على الصعيد السياسي والاستراتيجي، سعت دبي من خلال مدينة الإعلام إلى تعزيز حضورها كلاعب محوري في صياغة الخطاب الإعلامي بالمنطقة، فجذب القنوات الفضائية والصحف ووكالات الأنباء إلى دبي يعني أن تصبح الإمارة منبراً مؤثراً في تشكيل الرأي العام الإقليمي والدولي، بدلاً من أن تبقى مجرد متلقٍّ للمحتوى الإعلامي الموجه من العواصم الغربية، ولتحقيق ذلك كان لا بد من كسر الأنماط التقليدية للرقابة وتشجيع بيئة أكثر انفتاحاً مما هو معهود في المنطقة، ويقول محمد القرقاوي موضحاً النظرة المستقبلية للشيخ محمد بن راشد “في المستقبل لن يستطيع أحد أن يقيّد البث الذي يأتيه” في إشارة إلى أن موجات البث الفضائي والإنترنت ستجعل من المستحيل على الدول عزل نفسها إعلامياً، هذا الإدراك المبكر للتحول العالمي نحو العولمة الإعلامية دفع دبي لتبني سياسة الباب المفتوح إعلامياً كميزة تنافسية سياسية.
إضافة إلى ذلك، رأت القيادة في الإعلام أداة لتغيير الصورة النمطية عن المنطقة ولتعزيز خطاب التنمية والانفتاح الذي تتبناه الإمارات، فقد أكد الشيخ محمد بن راشد في أكثر من مناسبة أن الإعلام ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو قوة للتنوير والإلهام وبناء المجتمع، وفي لقاء حديث عام 2025 شدّد سموه على أن “دبي ليست مجرد مضيف للشركات الإعلامية … بل هي منصة إبداعية وحاضنة للمواهب العالمية… نحن نؤمن بقوة الإعلام في الارتقاء بالمجتمعات وحماية مستقبلها”، هذه الرؤية تعكس بعداً سياسياً عميقاً، حيث يُنظر للإعلام كشريك في التنمية وكدعامة للاستقرار عبر تعزيز الوعي والمعرفة، وليس كخصم يجب تقييده، وبهذا المعنى كان مشروع مدينة الإعلام رسالة سياسية بأن دبي تتبنى نهجاً جديداً في العالم العربي يوازن بين الحرية المسؤولة والتنمية المستدامة، ويؤكد قدرة دولة عربية على توفير مناخ إعلامي منفتح في محيط يشهد كثيراً من القيود.
الدوافع الاقتصادية
من منظور اقتصادي اندرجت مدينة دبي للإعلام ضمن استراتيجية أشمل لتنويع اقتصاد دبي وتطويره باتجاه اقتصاد معرفي وإبداعي، فالقيادة أدركت مبكراً أهمية الاقتصاد القائم على المعرفة كمسار للمستقبل، والإعلام يُعتبر قطاعاً محورياً في هذا الاقتصاد لارتباطه بالتقنية والابتكار وصناعة المحتوى، لذلك كان إطلاق مدينة الإعلام بالتوازي مع مدينة الإنترنت خطوة مزدوجة نحو ترسيخ بنية تحتية رقمية ومعلوماتية حديثة تجذب الاستثمارات والعقول، ويقول القرقاوي:”الفترة تلك هي حقبة استباقية… خلال العشر أو العشرين سنة القادمة، كان سيحصل شيء في الإعلام وفي التكنولوجيا” ، وعليه فإن الاستثمار كان استباقياً لتهيئة بيئة جاهزة لطفرة الإعلام الرقمي التي بدأت بالفعل في العقدين التاليين.
توفر المدينة الإعلامية حوافز اقتصادية جذابة للمستثمرين، بما فيها الملكية الأجنبية الكاملة للشركات والإعفاءات الضريبية على الدخل والشركات، والبنية التحتية المتطورة من مكاتب واستوديوهات وخدمات دعم، هذه المزايا وفرت مناخاً تنافسياً مع المراكز الإعلامية التقليدية في الغرب، ولكن بتكاليف تشغيلية أقل وبيئة أعمال أكثر مرونة، وقد وصف القرقاوي قرار محطة MBC الانتقال إلى دبي بأنه مؤشر ثقة وقرار تاريخي في صناعة الإعلام العربي، حيث أصبحت دبي وجهة جاذبة للمؤسسات الإعلامية الباحثة عن بيئة عمل عربية حديثة دون التضحية بميزات البنية التحتية أو الحرية المهنية.
كما يحمل المشروع بُعداً اقتصادياً تنموياً داخلياً تمثل في خلق فرص عمل جديدة وتنمية كوادر وطنية في مجال الإعلام والتقنيات المرتبطة به، فمع توافد شركات الإعلام العالمية والإقليمية، انفتح سوق وظائف واسع في دبي يشمل الصحافة والتلفزيون والإنتاج والإعلان والعلاقات العامة والتسويق الرقمي وغيرها، وبمرور الوقت تشكّل قطاع إعلامي متكامل في الإمارة يضم وكالات إعلانات وشركات استشارات إعلامية ومحاسبية وقانونية متخصصة تخدم هذا القطاع، مما خلق اقتصاداً تكاملياً يدعم بعضه البعض، ويشير معالي القرقاوي إلى أن هذا “الاقتصاد الإعلامي” يعمل الآن بشكل ذاتي النمو، مع معدلات نمو سنوية تقارب 20٪ في بعض المجالات، أي أن المدينة الإعلامية لم تكن مجرد مشروع عقاري أو منطقة حرة معزولة، بل نواة لمنظومة اقتصادية جديدة في دبي تدر أرباحاً وتساهم في إجمالي ناتجها المحلي، ومن الأمثلة البارزة التي ارتبطت بالمدينة الإعلامية ظهور مشاريع لاحقة مثل مدينة دبي للاستوديوهات 2005، لتلبية احتياجات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي، ومدينة دبي للإنتاج2007 لدعم قطاع الطباعة والنشر والمحتوى، وهذه المشاريع جاءت نتيجة النمو المتسارع للطلب على الخدمات الإعلامية في دبي بعد نجاح مدينة الإعلام في استقطاب الشركات.
باختصار، تضافرت الدوافع السياسية والاقتصادية لتأسيس مدينة دبي للإعلام في إطار رؤية شاملة، سياسياً لتحقيق الريادة الإقليمية وترسيخ خطاب الانفتاح والتحديث، واقتصادياً لبناء قاعدة جديدة للاقتصاد الوطني قائمة على الإعلام والتكنولوجيا والمعرفة، بمقاربة استشرافية تمثلت في الاستثمار الكبير والتحمّل المحسوب للمخاطر لتحقيق عوائد طويلة الأمد.
أثر مدينة دبي للإعلام على الاقتصاد المحلي والتحول الرقمي
على مدى أكثر من عقدين منذ تأسيسها، كان لمدينة دبي للإعلام تأثير ملموس على اقتصاد دبي المحلي وعلى مسيرة التحول الرقمي في الإمارة، من الجانب الاقتصادي،، وبحسب تصريحات رسمية حديثة، تحتضن مدينة دبي للإعلام وحتى نهاية العام 2024 ما يزيد عن 2,100 شركة تعمل فيها وتوفر أكثر من34,500 وظيفة لمختصين ومحترفين في مجالات الإعلام المتنوعة، هذا النمو الكمّي يعكس انتقال دبي من مدينة لا تكاد تضم سوى بضع مؤسسات إعلامية محلية في أواخر التسعينات، إلى تجمع إعلامي ضخم يضم آلاف الشركات والعاملين من مختلف أنحاء العالم، وتنوعت المؤسسات في المدينة لتشمل قنوات تلفزيونية وإذاعية، وشبكات أخبار عالمية، ووكالات أنباء، ودور نشر وطباعة، وشركات إعلان وتسويق، وشركات إنتاج فني وموسيقي، وحتى شركات الألعاب الرقمية والمحتوى الجديد
أسهم هذا التنوع في خلق سلسلة قيمة متكاملة في الاقتصاد المحلي، فعلى سبيل المثال، وجود القنوات التلفزيونية استدعى وجود شركات إنتاج واستوديوهات ومقدمي خدمات فنية مساندة، ووجود الصحف والمجلات جذب شركات الطباعة والتوزيع، فيما أدت حركة الإعلانات والتسويق إلى ازدهار وكالات الدعاية والعلاقات العامة، لم تكتفِ دبي للإعلام بجذب نشاط اقتصادي جديد للمدينة فقط، بل حفّزت أيضاً نمو قطاعات مساندة كانت محدودة سابقاً، وتشير بيانات دبي القابضة (الشركة الأم التي تدير المدينة الإعلامية) إلى أن المناطق الإعلامية الثلاث في دبي (مدينة الإعلام، مدينة الاستوديوهات، مدينة الإنتاج) تضم مجتمعةً أكثر من 3,000 شركة ويعمل فيها 34,000 محترف وخبير باختصاصات متنوعة، مما يبرز مساهمة هذه المنظومة الإعلامية في الاقتصاد المحلي كإحدى أكثر قطاعات الأعمال رسوخاً في الإمارة، وبالنظر إلى أن قطاع الإعلام جزء من الصناعات الإبداعية، فقد أصبح هذا القطاع أحد محركات النمو التي تعول عليها دبي لتنمية ناتجها الإجمالي.
على صعيد النمو السنوي، حققت هذه المجمّعات الإعلامية معدلات توسع ملحوظة، فقد نمت قاعدة عملاء مدينة دبي للإنتاج بنسبة13% على أساس سنوي خلال الربع الأول من 2024، فيما شهدت مدينة دبي للاستوديوهات ارتفاعاً بنحو12% في استقطاب المواهب الإبداعية خلال النصف الأول من 2024 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق
أما من ناحية التحول الرقمي، فقد لعبت مدينة دبي للإعلام دوراً غير مباشر لكن جوهري في دفع عجلة الرقمنة في دبي، إذ أن تواجد هذا العدد الكبير من الشركات الإعلامية والتكنولوجية في منطقة واحدة خلق طلباً هائلاً على خدمات الاتصالات المتقدمة والإنترنت فائق السرعة ومراكز البيانات، وقد تزامن إطلاق مدينة الإعلام مع جهود حكومية أخرى مثل مبادرة حكومة دبي الإلكترونية (التي أُعلن عنها عام 2000) وسن أول قانون للتجارة الإلكترونية في دبي عام 2002، وسلطة منطقة دبي الحرة للتكنولوجيا والإعلام والتجارة الإلكترونية “وهي المظلة التنظيمية التي كانت تحكم مدينة الإعلام والإنترنت” قامت منذ البداية بوضع أطر تشريعية وتنظيمية تدعم البيئة الرقمية، مثل إصدار أول قانون للمعاملات الإلكترونية والتجارة الإلكترونية في المنطقة قبل 23 سنة، هذه الخطوات التنظيمية المبكرة هيأت مناخاً آمناً للتعاملات الرقمية وساهمت في بناء الثقة لدى الشركات والأفراد في استخدام التكنولوجيا في الأعمال، وأدى تجمع شركات التكنولوجيا (في مدينة الإنترنت) والإعلام (في مدينة الإعلام) جنباً إلى جنب إلى تبادل الخبرات وتسريع تبني التقنيات الحديثة في الإنتاج الإعلامي، فعلى سبيل المثال، استفادت المؤسسات الإعلامية في دبي من خدمات شركات الاتصالات والبنية التحتية التقنية المتوفرة (مثل شركة “سماكوم” للبث عبر الأقمار الصناعية التي أُنشئت لتخدم المدينة الإعلامية)، مما مكّن تلك المؤسسات من تبني أحدث تقنيات البث الرقمي والتدفق الشبكي في وقت مبكر.
وقد شجع وجود منصات إعلامية كبرى في دبي رواد الأعمال الرقميين على إطلاق مشاريع ناشئة في مجالات الإعلام الجديد، فمدينة دبي للإنترنت المجاورة كانت حاضنة لشركات تقنية محلية مثل سوق.كوم (Souq.com) التي تأسست في أوائل 2005 كشركة تجارة إلكترونية قبل أن تصبح من قصص النجاح الكبرى في المنطقة، ويمكن القول إن تشابك المدينة الإعلامية والتقنية ولّد نظاماً بيئياً مواتياً للابتكار، إذ توفرت عناصر المحتوى والبنية التحتية الرقمية والسوق الاستهلاكية المتعطشة للمحتوى الجديد في مكان واحد، ونتيجة لذلك، تحولت دبي خلال العقدين الماضيين إلى عاصمة إقليمية للإعلام الرقمي، وتستضيف مؤتمرات ومنتديات التكنولوجيا والإعلام، وأصبحت مقراً إقليمياً لمنصات رقمية وشبكات تواصل اجتماعي وشركات بث عبر الإنترنت.
انعكس هذا التحول الرقمي على المجتمع المحلي أيضاً عبر زيادة المحتوى الرقمي العربي المنتج في دبي وانتشاره، فبوجود قنوات مثل MBC وأخواتها في دبي، ازداد المحتوى الإعلامي العربي الموجه للجمهور عبر منصات رقمية حديثة، وساهمت دبي في إطلاق قنوات ومنصات جديدة، مثل منصة شاهد للبث التدفقي التابعة لـMBC التي تُدار من دبي، وقناة العربية الحدث وغيرها، كما أن التنافسية التي خلقتها مدينة دبي للإعلام أجبرت المؤسسات الإعلامية العربية التقليدية على تحديث أدواتها وتقنياتها للحاق بالركب، وبذلك يمكن القول إن دبي لم تكتف بتحويل اقتصادها محلياً بل أثرت كذلك في تسريع التحول الرقمي الإعلامي في المنطقة ككل، عبر نموذج عملي ناجح يجمع بين الاستثمار والبنية التحتية والتشريعات الداعمة.
مدينة دبي للإعلام في مواجهة المراكز الإعلامية العالمية
شهدت مدينة دبي للإعلام منذ تأسيسها تطوراً سريعاً كمركز إعلامي محوري في الشرق الأوسط، ما يجعل مقارنتها مع مراكز إعلامية تاريخية مثل نيويورك ولندن أداة لفهم موقعها الحقيقي عالمياً، وهذه المقارنة لا تُبنى فقط على الأرقام، بل على فلسفة التأسيس، نموذج البنية التحتية، والتوازن بين حرية الإعلام والإطار التشريعي
البنية التحتية: بين التركيب والتراكم
قامت القيادة في دبي ببناء بنية تحتية موجهة وحديثة، تشمل شبكة ألياف ضوئية، مراكز بث فضائي، واستوديوهات مثل “استوديوهات دبي” التي تُعد من الأكبر إقليمياً، والهدف من ذلك تقديم بيئة متكاملة للإعلاميين دون الحاجة لاستثمارات تأسيسية إضافية
أما لندن ونيويورك، فهما نموذجان لبنية تحتية تطورت عبر عقود طويلة، في لندن نجد BBC، ورويترز، وفايننشال تايمز ضمن نسيج المدينة ذاته، بينما تحتضن نيويورك شبكات ABC وNBC وCBS، واستوديوهات مثل Silvercup، ومقر الأمم المتحدة الذي يجذب الإعلام العالمي، وهذه البنية تتسم بالانتشار والعمق، في مقابل نموذج دبي المركز والمخطط.
كما عبّر معالي محمد القرقاوي في أحد تصريحاته:
“ما تمتعت به المؤسسات العربية في لندن على مدار 15 سنة، وفرته دبي في سنوات معدودة، ولكن بتقنية أعلى وبيئة أكثر تركيزاً“
حجم القطاع: الكثافة في مقابل الاتساع
دبي جمعت أكثر من 1400 مؤسسة إعلامية، منها MBC وCNN وفوربس، وهذا النمو المركز أعطى الإمارة ثقلاً إقليمياً، وفي المقابل توظف لندن أكثر من 300 ألف شخص في القطاع وتبلغ قيمة صناعتها نحو 100 مليار جنيه إسترليني، وكذلك نيويورك بدورها تنفق قرابة 20 مليار دولار سنوياً على الإعلام والترفيه، مما يجعل حجم القطاع هناك غير قابل للمقارنة من حيث الكم والتنوع.
حرية الإعلام: التجربة مقابل النصوص
إن تجربة دبي تستحق التأمل، فعلى الرغم من موقعها في منطقة توترات مستمرة كالشرق الأوسط إلا أنها استطاعت استقطاب المؤسسات الإعلامية عبر وعد واضح بعدم فرض الرقابة، وهو وعد تم اختباره فعلياً مع نقل MBC من لندن إلى دبي عام 2001.
يروي معالي محمد القرقاوي تفاصيل حاسمة من تلك المرحلة:
طرح الشيخ وليد الإبراهيم رئيس MBC مخاوفه قائلاً: “في لندن لدينا المواهب والتقنية والحرية الإعلامية، فكيف تضمنون لنا تلك الحرية في دبي؟”
فأبلغ القرقاوي الشيخ محمد بن راشد بالأمر، فجاء الرد:
“محمد، في المستقبل لن يستطيع أحد أن يقيّد البث الذي يأتيه… قل لهم إننا لن نقيده”
ويضيف القرقاوي:
“لم نطلب يوماً من MBC أو العربية أو الحدث أن يبثوا شيئاً أو يمتنعوا عن بث شيء، حتى خلال حرب العراق حين اشتكى مسؤول أمريكي من قناة العربية، ثبتنا على موقفنا”
هذه التجربة أثبتت أن دبي لم تُقدّم حرية شكلية، بل نموذجاً عملياً لمنطقة حرة إعلامياً ضمن بيئة عربية، مع احترام الخطوط الحمراء المرتبطة بالنظام العام والدين والسيادة، والتي بدورها موجودة بصيغ مختلفة حتى في الدول الغربية كما لدى Ofcom في بريطانيا وFCC في أمريكا.
الإطار القانوني: أنظمة مرنة
اعتمدت دبي نموذجاً قانونياً مرناً داخل المنطقة الحرة، عبر “مدونات سلوك” بدلاً من القوانين والانظمة الروتينية المُنظمة للأنشطة التجارية المختلفة، مع تسهيلات استثمارية وتأشيرات للكفاءات، كما تم الفصل بين التنظيم التشغيلي (DCCA) والتشريعات الاتحادية، ما أتاح مرونة واسعة دون خروج عن المنظومة العامة.
ما بنته لندن ونيويورك في قرن، تحاول دبي تكثيفه خلال عقدين، لكنها لا تحاكي النموذج، بل تنتج صيغة ثالثة عبر بناء مركز إعلامي عصري، منظم قانونياً، منفتح نسبياً، يوفر بنية تحتية فائقة ومناخاً مؤسسياً لا يُرهق بحرية مطلقة ولا يُقيد بتدخل مباشر.
تجارب مماثلة وتكامل خليجي
دشّنت المملكة العربية السعودية “مدينة شماس الإعلامية” في الرياض عام 2020، لتُضاف إلى مشهد خليجي كان قد بدأ مبكراً مع إطلاق مدينة دبي للإعلام مطلع الألفية، مستفيدة من تجربة دبي الرائدة في تطوير بنية تحتية متقدمة تشمل استوديوهات رقمية، مراكز بث فضائي، منصات إنتاج رقمي، وخدمات إعلامية متخصصة، ويعكس هذا التوسع الإقليمي في إنشاء مدن إعلامية متخصصة تحولاً جوهرياً في فلسفة التنمية الخليجية، حيث لم يعد الإعلام يُنظر إليه كأداة ثقافية أو سياسية فقط، بل بات يُعامل كرافعة استراتيجية ضمن خطط تنويع الاقتصاد الوطني، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وصناعة المحتوى التنافسي الذي يخاطب الأسواق العالمية.
ما يميّز هذا التكامل الخليجي هو أنه يقوم على بنية تقنية ومعايير تشغيل متقاربة، ما يفتح الباب أمام بناء شبكات إعلامية عابرة للحدود، قادرة على تبادل الخبرات، وتوسيع الإنتاج المشترك، واستقطاب الكفاءات العالمية ضمن بيئة إقليمية متكاملة.
وفي السياق العربي الأوسع، تظهر “مدينة الإنتاج الإعلامي” في القاهرة، التي تأسست عام 1997 وبدأ تشغيلها فعلياً في عام 2000، كتجربة تنتمي إلى سياق مستقل، وبفلسفة تعتمد على دعم القطاع السينمائي والتلفزيوني المحلي والترويج له على المستوى الإقليمي والعربي.
أما من منظور فلسفي اجتماعي، دلت مدينة دبي للإعلام على أن النهضة التقنية والاقتصادية في العالم العربي ممكنة حين تتوفر قيادة تؤمن بالعلم والمعرفة، وحين يُمنح المجال للأفكار أن تتحقق ولو تجاوزت المألوف، وهذا التحول يشير إلى تغيّر في الفكر التنموي العربي، من الاعتماد على الريع الاقتصادي والاستيراد الثقافي، إلى خلق منصات إنتاج معرفي وإعلامي محلي تنافس دولياً، ولا يعني ذلك أن الطريق كان خالياً من التحديات أو النقد، فما زال البعض يشير إلى الحاجة لمزيد من الانفتاح الداخلي وحرية تناول الشأن المحلي دون خوف، لتحقيق إعلام مزدهر بحق على كل المستويات، بيد أن دبي، ضمن سياقها الخاص، أثبتت أن الانفتاح الموجّه يمكن أن يكون أداة تمكين اقتصادي واجتماعي قوية، إذا ما قورن بالتقييد الذي يؤدي إلى هجرة العقول ورؤوس الأموال، وكما لخّص الشيخ محمد بن راشد في إحدى مقالاته عن هجرة العقول وبفلسفة بسيطة ومفهومة ومباشرة، “علينا أن نوقف هجرة العقول العربية إلى الغرب، يجب أن تُحترم في أوطانها” فإن مدينة دبي للإعلام كانت تجسيداً عملياً لهذه الفلسفة، حيث أعادت جزءاً من الإعلام العربي المهاجر إلى أرضه، ووفرت له الاحترام والأدوات لينمو ويُبدع داخل موطنه.
وفي المحصلة، يُعد مشروع مدينة دبي للإعلام مثالاً على التنمية المبتكرة التي تمزج الاقتصاد بالثقافة، والسياسة بالتقنية، لتحقيق قفزة نوعية، إنه نموذج يستحق الدراسة بعمق كونه أحدث حراكاً في بنية الإعلام العربي، وطرح تساؤلات حول العلاقة بين الحرية والتنمية، وتجربة دبي أثبتت أن الحرية المسؤولة يمكن أن تكون محركاً للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، وأن بناء المدن الإعلامية ليس مجرد بنى إسمنتية بل هو بناء إنسان معرفي جديد يمارس الإبداع في فضاء أوسع من المعتاد، ويبقى نجاح دبي للإعلام في الاستمرار مرهوناً بقدرتها على مواكبة التطورات العالمية في الصناعة الإعلامية (كالتحول إلى الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي) والحفاظ على ثقة المستثمرين والجمهور عبر التوازن الدقيق بين الانضباط والحرية، إنها رحلة مستمرة من التعلم والتطوير، لكن إنجازاتها حتى الآن وضعتها على خريطة الإعلام الدولي بجدارة، كتجربة عربية رائدة تحمل في طياتها الكثير من الدروس والعبر للمنطقة والعالم.