الجمعة, 06 يونيو, 2025


من الرمال إلى واحة رقمية…مدينة دبي للإنترنت رؤية فلسفية اقتصادية
en
تقرير حصري يونيو, 2025
مدينة دبي للإنترنت

في مطلع الألفية الثالثة، تبنّت قيادة دبي مبدأً فلسفياً جوهرياً مفاده أن “أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي ابتكاره”. وقد ظهر هذا التوجه جلياً عندما أعلن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، في أكتوبر 1999 عن خطة جريئة: إنشاء مدينة دبي للإنترنت وهي مدينة متخصصة داخل المدينة مكرسة بالكامل للتكنولوجيا والابتكار، وجاء هذا المشروع كرهان استراتيجي لتحويل “الرمال إلى واحة رقمية” أي تحويل صحراء دبي إلى واحة تكنولوجية بهدف استثمار الثورة الرقمية المتسارعة وتعزيز اقتصاد المعرفة الناشئ في دولة الإمارات​، لم تكن هذه الخطوة مجرد تأسيس منطقة حرة للتقنية، بل كانت رؤية تستند إلى فلسفة تقول إن التقنية والمعرفة هي أسس بناء المستقبل. وكما عبّر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لاحقاً “الأمم التي تستشرف المستقبل قبل حدوثه وتستعد له قبل الآخرين.. هي الأمم التي تصنع ذلك المستقبل”، وهذا بالضبط ما سعت دبي لتحقيقه من خلال مدينة دبي للإنترنت…

« من 3 »

البداية…

في أواخر التسعينات، كانت دبي، كغيرها من اقتصادات الخليج، تتطلع إلى إعادة تشكيل نموذجها الاقتصادي، متجاوزة اقتصادها التقليدي القائم على التجارة والخدمات نحو تبني اقتصاد المعرفة القائم على الإبداع والتقنية ورأس المال البشري، وقد أدركت القيادة مبكراً أن المستقبل الاقتصادي لا يكمن في البقاء ضمن الأنماط السائدة، بل في استثمار المعرفة والابتكار باعتبارهما المحركين الأساسيين للنمو المستدام ومن هذا المنطلق، أُطلقت مدينة دبي للإنترنت عام 1999 كمشروع محوري في استراتيجية تنويع اقتصاد الإمارة، بهدف واضح يتمثل في تعزيز التحول نحو اقتصاد معرفي حديث ومتطور.

كما شكّل إنشاء هذه “المدينة التكنولوجية” في ذلك الوقت خطوة جديدة على مستوى المنطقة، حيث تم تحديد مهلة زمنية لا تتجاوز 365 يوماً لإنجاز المشروع وتشغيله، وتولى محمد القرقاوي مسؤولية الإشراف على المشروع، الذي بدأ من مبنى مستأجر ومجهز بأثاث مستخدم، معتمدين على فكرة المشروع كأساس للانطلاق رغم محدودية الإمكانات، وتم تمويل المشروع من خلال قرض تجاري بقيمة 200 مليون دولار من بنك HSBC أي من دون تمويل حكومي مباشر، ما يعكس توجهاً لإطلاق مشروع اقتصادي يرتكز على قطاع تكنولوجي لم يكن قائماً في دبي عام 1999، ولم يقتصر العمل على إنشاء بنية تحتية، بل شمل أيضاً إعداد بيئة تنظيمية تهدف إلى جذب الشركات وتوفير العناصر التي تتطلبها طبيعة الاقتصاد الرقمي، مثل الكفاءات البشرية، والبنية التحتية الفنية، والتشريعات الواضحة، وتم تنفيذ هذه المكونات في موقع صحراوي، تم فيه توفير مقومات قطاع اقتصادي جديد يُعتبر نقلة نوعية وخطوة تحمل في جوهرها من المجازفة بقدر ما تحمل من الطموح والتفكير المستقبلي.

وروى معالي محمد القرقاوي، والذي أصبح لاحقاً وزير شؤون مجلس الوزراء مع تولي الشيخ محمد بن راشد رئاسة الوزراء في 2006، وقد كان حينها أحد أبرز قادة المشاريع التحولية في دبي، أن الشيخ محمد أخذه ذات يوم بالسيارة إلى منطقة بعيدة عن مركز مدينة دبي وكانت صحراوية حينها، ليكلفه هناك بمهمة تأسيس مدينة متكاملة للإعلام، ومدينة متكاملة للإنترنت. يُلخّص معالي القرقاوي أفكاره في تلك المرحلة بالقول: “بدأنا قبل أن يكون لدينا شركات، وبدأنا قبل أن نعرف إن كانت الشركات ستأتي أم لا… لكن كنا نعلم أن المستقبل يبدأ من هذه الخطوة.”
تكمن أهمية هذه النقلة الفكرية في أنها مثّلت واحدة من أبرز لحظات كسر الحواجز النفسية والإدارية، فلم تعد دبي تنتظر تحولات الأسواق العالمية أو مجيء الفرص، بل أخذت زمام المبادرة في صناعتها، وهذا ما جعل المشروع لا يُقاس فقط بما أنجزه مادّياً، بل أيضاً بما رسّخه من قناعة بأن بوسع مدينة عربية أن تصبح مركزاً لصناعة الابتكار، لا مجرد مستهلك له

« من 5 »

التأثيرات الرقمية والاقتصادية…

بعد مرور أكثر من عقدين على تأسيسها، أصبح التأثير الذي أحدثته مدينة دبي للإنترنت في البنية الرقمية والاقتصاد المحلي واضحاً وعميقاً، ليس فقط من خلال البنية التحتية أو عدد الشركات، بل من خلال إحداث تحوّل هيكلي في طبيعة الاقتصاد نفسه وموقع دبي على خارطة الابتكار العالمي.

فعلى صعيد المساهمة الاقتصادية، تمكنت المدينة من ضخ ما يقرب من 100 مليار درهم في اقتصاد دبي خلال فترة خمسة عشر عاماً فقط، وهو إنجاز نوعي يضعها في قلب المشهد الاقتصادي للإمارة، واليوم تمثل مدينة دبي للإنترنت ما يقارب 65% من الناتج المحلي الإجمالي لقطاع التكنولوجيا في دبي، وهو ما يعكس دورها المحوري بوصفها المحرّك الأول للاقتصاد الرقمي في المنطقة، هذه النسبة لم تكن لتتحقق لولا الاندماج العميق للمدينة في مختلف سلاسل القيمة المضافة، حيث تحوّلت من مجرد منطقة حرة إلى حاضنة للأفكار والتمويل والإنتاج المعرفي.

أما على مستوى التوظيف وتطوير الكفاءات، فقد ساهمت المدينة في توفير أكثر من 125 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة في قطاعات التقنية المختلفة منذ إنشائها عام 1999، واليوم يعمل في شركاتها أكثر من 31 ألف موظف، ينتمون إلى أكثر من 150 جنسية، ما يجعلها واحدة من أكثر بيئات العمل تنوعاً في المنطقة، ويعكس قدرتها على استقطاب المواهب من مختلف أنحاء العالم، هذا التنوع لا يقتصر على الجانب الثقافي، بل يمتد إلى المهارات التخصصية في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وأمن المعلومات، وتطوير البرمجيات، وتحليل البيانات.

وفيما يتعلق بجذب الاستثمار والشركات، فقد أصبحت مدينة دبي للإنترنت وجهةً رئيسية لعمالقة التكنولوجيا على مستوى العالم، حيث تحتضن المدينة اليوم أكثر من 4,000 شركة، تشمل فروعاً إقليمية لكبرى الشركات التقنية العالمية، إلى جانب عدد هائل من الشركات الناشئة المحلية والإقليمية، وقد استطاعت استقطاب أبرز الأسماء في عالم التكنولوجيا، من بينها شركات البرمجيات مثل “مايكروسوفت” و”أوراكل”، وشركات تصنيع الأجهزة مثل “ديل”، بالإضافة إلى رواد الحوسبة السحابية مثل “أمازون ويب سيرفيسز” كما تشكل مقراً لعدد من شركات التواصل الاجتماعي العالمية مثل “لينكدإن” و”سناب شات”، إلى جانب شركات التقنية المالية الرائدة مثل “فيزا” و”ماستركارد”، هذا الحضور المتعدد لم يكن عشوائياً، بل نتيجة استراتيجية واضحة اعتمدت على تقديم بيئة أعمال تنافسية وبنية تحتية متقدمة، مع تشريعات مرنة وخدمات داعمة تُحاكي أفضل المعايير العالمية.

وعلى صعيد ريادة الأعمال، خلقت مدينة دبي للإنترنت بيئة حاضنة لنمو الشركات الناشئة العربية وازدهارها، وشهدت هذه المنظومة ولادة قصص نجاح لافتة في المنطقة: فقد انطلقت من المدينة شركة مكتوب التي استحوذت عليها شركة ياهو العالمية عام 2009، وكان ذلك بمثابة الشرارة التي لفتت الأنظار إلى إمكانات رواد الأعمال العرب، وتلتها إنجازات أكبر تمثلت في صفقات استحواذ ضخمة مثل استحواذ شركة أمازون على سوق.كوم عام 2017، واستحواذ شركة أوبر على كريم عام 2020 بصفقة قياسية بلغت 11.3 مليار درهم​،  وإلى جانب هذه النجاحات، برزت شركات جديدة واعدة استطاعت الوصول إلى تقييمات مليارية، مثل شركة تابي للتكنولوجيا المالية، هذه الإنجازات لم تكن لتتحقق لولا المناخ الداعم الذي وفرته دبي للإنترنت لرواد الأعمال، سواء عبر تسهيل الإجراءات والتمويل أو من خلال مبادرات مثل حاضنة الأعمال “in5” التي قدّمت مساحات عمل وإرشاد واستثمارات للشركات الناشئة منذ عام 2013 وبفضل ذلك تمكنت الشركات المحتضنة في المدينة من جمع استثمارات تجاوزت عدة مليارات وتوسيع نطاق أعمالها إقليمياً وعالمياً​.

ولم يقتصر أثر دبي للإنترنت على الأرقام فحسب، بل امتد ليشمل ترسيخ ثقافة الابتكار الرقمي في المجتمع، فقد أصبحت المدينة القلب النابض للاقتصاد الرقمي على مستوى المنطقة، ووجهة رئيسية تستقطب المبتكرين ورواد التقنية من أنحاء العالم، كما أسهمت فعالياتها ومجتمعها التقني في إلهام جيل جديد من الشباب العربي لتأسيس شركات ناشئة وخوض غمار التكنولوجيا، مدفوعين برؤية أن النجاح ممكن محلياً تماماً كما هو عالمياً، وتجدر الإشارة إلى أن مدينة دبي للإعلام تأسست في وقت مقارب لمدينة دبي للإنترنت، إذ كما عبّر معالي محمد القرقاوي: “كان لدينا الحدس أن الإعلام والإنترنت مرتبطان منذ ذلك الوقت”، وهو حدس استباقي ظهر واضحاً في اختيار تنفيذ المشروعين جنباً إلى جنب لتأسيس منصة تكاملية تجمع بين المحتوى والتقنية، وهي فلسفة تبلورت لاحقاً في النموذج الاقتصادي الذي صارت دبي تقدّمه للعالم.

« من 3 »

دور السياسات الحكومية والبيئة التشريعية في دعم التحول الرقمي

منذ اللحظة الأولى لإطلاق مشروع مدينة دبي للإنترنت، لعبت السياسات الحكومية والتشريعات دوراً حاسماً في نجاحه وديمومته، اتخذت حكومة دبي خطوة استثنائية بإعلان المدينة منطقةً اقتصادية حرة ذات إطار قانوني خاص: فعلى عكس بقية مناطق الدولة، لا تُفرض داخل دبي للإنترنت شرط الشراكة مع مواطن إماراتي لتأسيس الشركات (100% ملكية أجنبية مسموحة) ولا تُطبَّق عليها التعرفات الجمركية الاتحادية​، هذا التميز التشريعي وفّر للشركات العالمية والإقليمية حافزاً قوياً للانتقال إلى دبي، إذ ضمنت لهم بيئة أعمال تنافسية ومشجعة للابتكار.

إلى جانب ذلك، حرصت الحكومة على توفير البنية التحتية التنظيمية الملائمة، فتم تأسيس سلطة مختصة لإدارة المجمع (مجموعة تيكوم) لتكون مظلة تنظم شؤون المدينة وتوفر خدمات فعالة للشركات، كما سُنّت قوانين حديثة لمواكبة التحول الرقمي، مثل قوانين للتعاملات الإلكترونية وحماية البيانات والملكية الفكرية، بهدف خلق مناخ من الثقة في ممارسة الأعمال الرقمية، ويُذكر أن دبي كانت من أوائل المدن العربية التي أطلقت مشروع الحكومة الإلكترونية في عام 2000، مما سهّل الإجراءات على الشركات والمستثمرين وجسّد التزام الحكومة بالرقمنة الشاملة.

لقد كانت رؤية القيادة واضحة في أن التشريعات يجب أن تواكب سرعة التطور التقني. فعندما أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن إنشاء المدينة في 1999، حدد هدفها بتهيئة “البنية التحتية اللازمة والمناخ الملائم لتمكين مشاريع الاقتصاد الجديد من إدارة عملياتها من دبي، وقد تجلى هذا النهج في واقعة يرويها محمد القرقاوي، أول مدير عام للمدينة، حيث قال إن سموه خلال إطلاق المشروع أشار إلى رقعة الأرض الصحراوية الشاسعة المخصصة للمدينة قائلاً: “أمامكم عام لتنفيذ المشروع”، في إشارة إلى الاستعجال في توفير كل ما يلزم من إجراءات وتشريعات لتحقيق الرؤية خلال سنة واحدة فقط.

على مدار السنوات التالية، استمرت حكومة دبي في دعم التحول الرقمي عبر سياسات مبتكرة، فتم إنشاء مبادرات لتطوير المهارات الرقمية محلياً، وتسهيل منح التأشيرات للمواهب التكنولوجية من مختلف أنحاء العالم، وإطلاق صناديق تمويل للمشاريع التقنية الناشئة، كما تم تأسيس هيئات متخصصة مثل هيئة دبي الرقمية لضمان تنسيق جهود الرقمنة في الإمارة ووضع الأطر التنظيمية للتقنيات الجديدة كالذكاء الاصطناعي والبلوك تشين، ونتيجةً لهذا الدعم المتكامل، استطاعت دبي للإنترنت أن تحافظ على مكانتها المتقدمة وتوسع نطاق تأثيرها، في ظل بيئة تشريعية مرنة تستجيب لتحديات العصر الرقمي وتوازن بين تحفيز الابتكار وحوكمة التكنولوجيا.

وعند تأمل تجربة مدينة دبي للإنترنت، يظهر بوضوح أنها لا تقتصر على استلهام نماذج عالمية بل تعيد صياغتها وفق معادلة خاصة، ففي الولايات المتحدة، نشأ وادي السيليكون من ترابط البحث الأكاديمي مع رأس المال الاستثماري، معتمداً على ديناميكية السوق والابتكار المفتوح، أما في سنغافورة، فقد برزت التجربة من خلال تخطيط حكومي صارم هدفه تحويل الدولة إلى مركز مالي وتقني، مستفيدة من موقعها الجغرافي وارتباطها بالأسواق الآسيوية، وبالمقارنة تسير دبي على خط ثالث يجمع بين مرونة السوق وتدخل حكومي محسوب، إذ جاء مشروع مدينة دبي للإنترنت في عام 1999 كخطوة مدروسة لتمكين الإمارة من دخول الاقتصاد المعرفي بقوة، مستنداً إلى بنية تحتية متقدمة وحوافز تنظيمية صُممت بعناية لجذب اللاعبين العالميين، وعلى مستوى أوروبا، تبرز برلين وستوكهولم كنقاط جذب للشركات الناشئة بفضل سياساتهما الداعمة للابتكار، غير أن وتيرة التطوير هناك تتسم بالحذر النسبي، بخلاف دبي التي راهنت منذ البداية على تسريع التحولات، مدفوعة برغبة واضحة في وضع المدينة على الخارطة العالمية بسرعة وكفاءة، وبهذا المعنى لا تبدو دبي نسخة من وادي السيليكون ولا من سنغافورة أو برلين، بل حالة خاصة صاغتها استراتيجيات استباقية جعلت منها منصة إقليمية وعالمية للشركات، تجمع بين التنوع الجغرافي والقدرة التنافسية العالية.

العالم اليوم يشهد تغيرات متسارعة على صعيد التكنولوجيا والاقتصاد… من الذكاء الاصطناعي إلى موجة التحول نحو الثورة الصناعية الرابعة، ومن التحديات البيئية العالمية إلى التحولات الجيوسياسية، وفي خضم هذه المتغيرات الدولية، تقف دبي بما راكمته من خبرات وإنجازات عبر مدينة دبي للإنترنت وغيرها من المبادرات، في وضع يؤهلها لقيادة فصل جديد من التحول الرقمي ولعل إطلاق أجندة دبي الاقتصادية D33 مؤخراً هو دليل على استمرار الطموح لوضع دبي بين أهم أربع مراكز ابتكار مالي وتقني في العالم بحلول 2033​، إن المرونة التي أبدتها دبي للإنترنت في تبني التقنيات الناشئة (كالبلوك تشين والميتافيرس والذكاء الاصطناعي) والتوجه نحو الاستدامة في الابتكار، تشير إلى أن مستقبل هذه المنظومة سيظل متجدداً ومتوافقاً مع الاتجاهات العالمية.

وتُبرز قصة مدينة دبي للإنترنت بكونها رؤية اقتصادية شاملة، تُرجمة إلى مشروع عملي يُعيد تشكيل مسار التنمية في المنطقة عموماً، ونموذج يعبّر عن قدرة المجتمعات على تشكيل مستقبلها من خلال التخطيط الاستراتيجي والبناء على المعرفة، مؤكدة أن مسار التقدم لا يُرسم بالانتظار، بل بالفعل المتّزن القائم على الإدراك العميق للتحولات الاقتصادية والاجتماعية، وتوجيه الموارد والقرارات نحوها، لاستباق المستقبل.