
منذ تأسيس “جائزة دبي للجودة” في عام 1994، أصبحت الجائزة إحدى أدوات التحفيز المؤسسي الأكثر تأثيراً في تعزيز ثقافة الجودة والتميز في القطاع الخاص بدبي، ولكونها المبادرة الحكومية الأولى من نوعها على مستوى المنطقة آنذاك، فقد ساهمت في تحقيق قفزة غير مسبوقة في ثقافة تقديم الخدمات والحرص على اتباع معايير الجودة على مستوى دبي والمنطقة. وخلال العقود الثلاثة الماضية، شاركت أكثر من 2,000 مؤسسة من مختلف القطاعات في برامج التقييم التابعة للجائزة، وأسفرت هذه المشاركات عن تحسينات ملموسة في كفاءة العمليات، ورضا العملاء، واستدامة الأداء. تشير تقارير اقتصادية محلية إلى أن الشركات الحاصلة على الجائزة سجّلت معدلات نمو أعلى بنسبة 15% إلى 25% في الإنتاجية مقارنةً بمتوسط القطاع خلال السنوات التالية لتكريمها.
التحول الذي أحدثته الجائزة في بيئة الأعمال يتماشى مع توجه دبي نحو ترسيخ اقتصاد تنافسي قائم على الأداء المؤسسي المتميز. فآلية التقييم الصارمة المبنية على نموذج التميز الأوروبي (EFQM) دفعت العديد من الشركات إلى تبنّي ممارسات الإدارة المبنية على البيانات، والحوكمة الفعّالة، والابتكار المستدام، مما ساهم في رفع مستوى نضج بيئة الأعمال في الإمارة.
وقد كان للشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، والذي كان حينها يشغل منصب رئيس الدائرة الاقتصادية بدبي، دور محوري في توجيه مسار الجائزة منذ تأسيسها، باعتبارها “منصة لصناعة التميز، وليست فقط لتكريم المتميزين”، كما صرّح في إحدى كلماته. وقد تزامن إطلاق الجائزة بعدد من المشاريع الهادفة إلى الارتقاء بالبنية التحتية الاقتصادية في دبي وبث فلسفة حكومية تعتبر الجودة عاملاً حاسماً في استدامة النمو الاقتصادي، والتي كانت بمثابة طفرة جديدة في المنطقة ككل، مما انعكس على مسار تطوير القطاع الخاص بدبي على مدى العقود الثلاثة الماضية.
ووفقاً لتقارير دائرة الاقتصاد والسياحة، فإن نسبة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحاصلة على تقييمات جودة ضمن معايير الجائزة ارتفعت من 7% في عام 2005 إلى أكثر من 38% بحلول عام 2022، مما يعكس انتشار ثقافة الجودة على نطاق أوسع داخل النسيج الاقتصادي المحلي.
البدايات
في عام 1993، وبينما كان محمد القرقاوي، مدير إدارة الشؤون المالية والإدارية في دائرة التنمية الاقتصادية بدبي – آن ذاك- يشارك في برنامج تدريبي داخلي في بنك المشرق، “المعروف ببنك عُمان حينها”، استوقفه كتيّب موجز بعنوان “إدارة الجودة الشاملة”. لم يكن النص طويلاً، لكنه قدّم مفاهيم مؤثرة، من بينها ما قاله المفكر الأميركي” :William Edwards Deming الجودة مسؤولية الجميع، ولا يمكن تفويضها إلى قسم واحد.” شكّلت تلك المبادئ لحظة وعي مبكر لدى القرقاوي – وهو الذي سيتم تكليفه لاحقاً من قِبل الشيخ محمد بن راشد بتأسيس برنامج دبي للجودة – بأهمية بناء بيئة مؤسسية تعتمد على معايير منهجية، تتجاوز الجهود الفردية وتُرسّخ أسس العمل الجماعي الفعّال.
وحينما جاء توجيه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بضرورة إرساء منظومة حكومية ترتكز على التميز والجودة، قدّم القرقاوي مقترحاً متكاملاً يستند إلى نماذج عالمية مثل EFQM ومعايير مالكوم بالدريج، ومن هناك، بدأت تتشكل ملامح جائزة دبي للجودة.
بذور الفكرة…
يَروي القرقاوي القصة خلال مقابلة أجراها، قائلاً: “كانت الدورات التدريبية في بنك المشرق نواة فكرة جائزة دبي للجودة؛ كنا نريد أن نصنع شيئاً لدبي في مجال الجودة، فرفعنا مقترحاً إلى الشيخ محمد… واعتمده”. ذلك الاعتماد لم يكن توقيعاً روتينياً، بل خطوة استراتيجية تعكس توجهاً أوسع لتحويل دبي من مركزاً رئيسياً للتجارة الخارجية إلى مدينة تتقن أيضاً جودة الأداء داخل مؤسساتها.
إلا أن الفريق كما يقول القرقاوي، لم يملك سوى “دورتين عن الجودة وبعض الحماسة”، فشرع يبحث عن نموذج مرجعي يختزل الفِكر ويترجِمه إلى مؤشرات. هنا برز دور FedEx، التي كانت أول شركة خدمات تنال “جائزة مالكوم بالدريج الوطنية للجودة” عام 1990، ما جعلها دليلاً حياً على أن الجودة ليست حكراً على قطاع الصناعة كما كان سائداً، بل مبدأ قابل للتعميم على كافة القطاعات بما فيها قطاع الخدمات الخاصة والحكومية. تواصل فريق العمل في دبي مع الشركة وحصل على وثائق التقييم التفصيلية، ثم وضعها جنباً إلى جنب مع إطار EFQM الأوروبي الذي تبنته دبي رسمياً لاحقاً.
في عام 1994، أُطلقت جائزة دبي للجودة، مؤسساً لتوجه جديد يربط بين كفاءة الأداء ورضا المتعامل. توجه يدرك أن الجودة تبدأ من فهم حاجة المستهلك وتقديم ما يلبيها بأقل تكلفة ممكنة، وأن أكبر كلفة تتحمّلها المؤسسات هي كلفة الخطأ. لذا، كان تقليل الأخطاء وإعادة تصميم العمليات جزءاً أساسياً من فلسفة الجودة، التي لم تُطرح كشعار، بل كنظام إداري يعزّز الأداء ويجعل التميز ممارسة يومية داخل مؤسسات دبي.
الميلاد الرسمي 1994…لحظة رفع السقف على الجميع
عند إطلاق جائزة دبي للجودة عام 1994، كلّف الشيخ محمد بن راشد دائرة التنمية الاقتصادية بتطبيقها كأداة لقياس الأداء المؤسسي، لا مجرد تكريم رمزي. واستندت الجائزة إلى مزيج من معايير “مالكولم بالدريج” الأميركية التي تركّز على القيادة الاستراتيجية، و EFQMالأوروبية التي تربط الكفاءة بالعلاقات بين الموارد والنتائج. ونتج عن ذلك نموذج محلي يشمل عشرة معايير تُقسّم بين مُمكّنات مثل القيادة والاستراتيجية والموارد، ونتائج تشمل المتعاملين والموظفين والمجتمع.
بعد إطلاق جائزة دبي للجودة، تغيّر دورها من مجرد أداة لتكريم الأفضل إلى معيار يُعيد ترتيب مكانة المؤسسات حسب أدائها الحقيقي، وليس حسب سمعتها. أصبحت الجودة شرطاً أساسياً، فالمؤسسات التي كانت ترى الجودة مجرد أداة تسويقية بدأت تواجه متطلبات جديدة، مثل ربط التراخيص أو الشراكات الحكومية بنتائج تقييمها السنوي. أما صناع القرار، فاعتبروا معيار الجودة أداة تنظيم تشبه دور الضرائب في بناء الدول، لكونه يفرض التزاماً مشتركاً يعزز الثقة والشفافية. وهكذا، أصبحت جائزة دبي للجودة أداة حوكمة تربط بين الأداء الاقتصادي والمسؤولية تجاه المجتمع.
الفلسفة الكامنة… الجودة كعقد اجتماعي
تحمل فلسفة جائزة دبي للجودة فكرة أوسع من مجرد ضبط تقني لمعايير الإنتاج. فهي محاولة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي ذاته بحيث يصبح حق الخدمة المتقنة جزءاً من مواطَنة الفرد وشرطاً لشرعية المؤسسة. ففي النموذج الذي اعتمدته دبي، يُعاد تعريف الزمن الذي يَقضيه المتعامل في إنجاز معاملته بوصفه عملة أخلاقية لا تقل قيمة عن الدرهم. ومن ثم فإن احترام الوقت يُعادل احترام الكرامة، وكذلك تتحوّل شفافية المؤشرات إلى آلية لتجديد الثقة بين الحاكم والمحكوم. فإذا كانت السلطة الحديثة، كما يقول جون لوك، تنبع من “الرضا الصامت” للأفراد، فإن نشر نتائج الجودة على الملأ يُحوّل ذلك الرضا إلى رقم قابل للقياس، فيصبح الامتياز وظيفة اجتماعية قبل أن يكون تفوق اقتصادي.
لقد ساعد هذا المنطق على خلق ما يُشبِه “قسَم أخلاقيات مؤسسي” تُبايِع بموجبه الشركات المجتمعَ على أن الجودة شرط البقاء لا التميز فقط؛ وهو ما تؤكده الأدبيات الحديثة حول نموذج EFQM، حيث تُدرج مسؤولية الشركة تجاه أصحاب المصلحة ضمن معايير التقييم، فيلتقي الأداء بالسلوك في نقطة واحدة. وتشير دراسة أجريت على مؤسسات فازت بالجائزة إلى أن المشاركة فيها أسهمت في ترسيخ ثقافة شرعية قائمة على الكفاءة داخل تلك المؤسسات، وهو ما رآه الباحثون منفذاً لرفع ثقة الجمهور بالدور الاجتماعي للقطاع الخاص.
من هنا يتجلّى البُعد الفلسفي للجائزة… فكما تطالب الدساتير الحديثة المواطن بدفع الضرائب وحماية المرافق العامة، يطالب نموذج الجودة كل كيان حكومياً كان أم خاصاً بسداد ضريبة من نوع آخر هي الالتزام بمعيار يُمكّن المجتمع من محاسبته. وهكذا تصبح الجودة أعمق من شهادة تُعلَّق على جدار، إنها تعاقد ضمني يعيد توزيع النفوذ الرمزي داخل الاقتصاد لمصلحة من يتقن الخدمة لا مَن يملك رأس المال وحسب.
أثر عددي يتجاوز الرمزية
بعد ثلاثة عقودٍ تقريباً على انطلاق جائزة دبي للجودة، باتت الأرقام بذاتها خطاباً أخلاقياً واقتصادياً، حيث حظيت 169 شركة بالاعتراف الرسمي بالجائزة حتى عام 2018، موزعة على أكثر من عشرة قطاعات تمتد من التمويل إلى التعليم والسياحة ومن ثمّ، وخلال الدورة التاسعة والعشرين في مارس 2023، أعلنت دائرة الاقتصاد والسياحة تكريم 46 جهة 20 منها حازت فئات الجائزة الرئيسة و26 نالت جوائز منظومة خدمة المتعاملين في حفل استقطب أكثر من ألف مشارك عبر منصة افتراضية واحدة، إلا أن الأهمية الحقيقية تتجلى في بنية “السوق المعنوي” التي أنشأها النظام، حيث أن إجمالي المتقدمين للجائزة على مدى الدورات تجاوز 23 ألف طلب، أفرزوا نحو 700 فائز، خضع تقييمهم لأكثر من ثلاثة آلاف مُقيِّم و500 “متسوق سري” يقيسون تجربة الخدمة ميدانياً.
إن تراكم البيانات على مدى 29 دورة خلق “ذاكرةً إحصائية جماعية” تُقوّم أداء القطاعات بعيونٍ محايدة، وتسمح للمنظِّمين بتحريك مؤشرات الحوافز أو الضرائب وفق مسطرة شفافة.
من الكايزن إلى الاقتصاد المعنوي
استلهمت فلسفة الكايزن اليابانية التي تقوم على التحسين المستمر عبر خطوات جزئية متراكمة باعتبارها تشريحاً منهجياً لفكرة “صناعة الاتقان”. غير أن مهندسي جائزة دبي للجودة أعادوا صياغتها ضمن منظومة ثقافية تُعلي من قيمة الضيافة العربية بوصفها التزاماً اخلاقياً تجاه الآخر. ففي واقعنا العربي لا يُقدم فنجان القهوة لمجرد إشباع حاجة جسدية، بل لتأكيد كرامة الضيف وإعلان احترام مسبق له، وبالتالي غدا التحسين المستمر امتداداً لهذه الفلسفة، حيث كل إجراء إداري أو خدمة تجارية هو فنجان قهوة آخر يجب أن يظل ساخناً في كل مرة…ساخناً بمعيار الوقت، وساخناً بمعيار الدقة.
وعلى هذه الخلفية ترسخ مفهوم الاقتصاد المعنوي، أي أن القيمة السوقية لشركة ما تقاس أيضاً بمدى إسهامها في رفع مستوى التوقع الشعبي لمفهوم الخدمة. تلك القيمة اللامادية تراكم ما يُعرف بـ “رأس مال التعاطف” الذي يزيد من ولاء العملاء ويحمي الشركة في لحظات الأزمات بدرجة تفوق ما يفعله الإعلان التقليدي أو التخفيض السعري.
الأثر الاقتصادي والأثر الحكومي
يكشف القياس الكمي لأثر جائزة دبي للجودة عن معادلة مزدوجة تجمع رأس المال البشري والقيمة السوقية في آن واحد، فعلى مستوى التشغيل الداخلي، أظهرت دراسة أكاديمية، أن الشركات الإماراتية التي نالت الجائزة حسّنت ممارسات تنمية الموارد البشرية وخفّضت مخاطر التشغيل بدرجةٍ ملحوظة، بما يحافظ على استدامة تدفقات النقد ويقلص فجوة الامتثال. وهنا نأخذ هيئة كهرباء ومياه دبي و “إمباور” مثالاً: في عام 2024، سجّل مزود الخدمات الرقمية لهيئة كهرباء ومياه دبي زيادةً قدرها 12٪ في حجم المعاملات الإلكترونية مقارنةً بالعام السابق، وهو نموّ انعكس مباشرةً على كفاءة الموظف باعتباره ينجز عدداً أكبر من الخدمات في الزمن نفسه، ما يمنح الجائزة بعداً إنتاجياً لا يقتصر على الحوكمة الرمزية.
من زاوية السوق، تُظهر بيانات مؤسسة الإمارات لأنظمة التبريد المركزي “إمباور” المدرجة في سوق دبي المالي أن الإيرادات ارتفعت 7٪ تقريباً على أساس سنوي بعد اعتماد منظومات تميّز ترتكز إلى معايير الجائزة، وهو مثال تجريبي على قدرة علامة الجودة على جذب رأسمال جديد وتوسيع هوامش الربح من دون رفع الأسعار الفعلية. وتتقاطع هذه النتيجة مع دراسة كلاسيكية في مجلة Management Science خلصت إلى تحقق عوائد غير عادية تقترب من واحد بالمئة في يوم الإعلان وتراكمية أعلى خلال النوافذ الممتدة، ما يعني أن السوق يترجم الفوز بالجائزة إلى قراءة مالية إيجابية.
أما الأثر الإداري على البنية الحكومية فيتجسد في بحث صادر عام 2025 عن تحول رشيق في مشاريع محطات المحولات التابعة لهيئة كهرباء ومياه دبي. إذ خفض تطبيق منهجيات “أجايل” زمن تسليم المشروع بنسبة 30٪، ووفر نحو 1.8 مليون درهم لكل محطة. مؤكداً أن الجودة ليست مجرد فحص بل أداة لخفض المخاطر الرأسمالية وتعجيل العائد الاجتماعي للاستثمار. وبهذا تصبح الجائزة في بعدها الاقتصادي آليةً لرفع الهامش وخفض المخاطر معاً، وفي بعدها الإداري محفزاً لإعادة هندسة العمليات الحكومية على أسس بيانات لحظية ومعايير أداء قابلة للمساءلة.
البُعد الأخلاقي والسياسي – الجودة كمعيار للشرعية
تُظهر المقارنات الإدارية بين نماذج “المدينة-الدولة” أن جودة الخدمة تحوّلت إلى أداة لإنتاج الشرعية السياسية بطرائق مختلفة. ففي سنغافورة، صاغت الحكومة عقداً ضريبياً واضحاً مع المواطنين. وهو، الالتزام بطاعة جهاز الدولة مقابل خدمات عامة فائقة الكفاءة. وهكذا أصبحت الجودة وسيلة لتعزيز “شرعية الامتثال”. حيث تُبرر الطبيعة السلطوية من خلال تقديم مدارس ومواصلات وخدمات رقمية تُصنف بين الأفضل عالمياً، في إطار منظومة يقودها مكتب الخدمة المدنية تحت إشراف وزارة المالية عبر عقود أداء سنوية وأهداف “مؤشرات متوازنة”(Balanced Scorecard) . أما دبي، فقد قلبت المعادلة.. لم تتخذ الإمارة الجودة لتأكيد سلطة مركزية مُسبقة، بل لتشكيل سلطة إدارية جديدة تُقاس بالكفاءة وتتجدد بها. وبهذا انتقلت الحكومة من دور “الراعية المانحة” التي تملك الموارد وتوزعها وفق رؤية أبوية، إلى دور “ضامن المعيار” الذي يضع خطوطاً حمراء للأداء ويحرس تجربة المتعامل لحظة بلحظة عبر لوحات تحكُّم رقمية وتقارير مؤشرات رئيسية (KPIs) علنية.
هذه النقلة غيرت بنية العلاقة بين المواطن والمؤسسة… فبدلاً من طلب جميل الدولة نظير خدمات محسوبة على أنها مكرمة، صار المتعامل يملك حقاً تعاقدياً قابلاً للقياس. ويمكنه مساءلة الجهة المقصِّرة بما يشبه “عُرف الأداء” لا “عُرف الولاء”. وضمن هذا السياق، باتت شرعية حكومة دبي متجذرة في كفاءة الإجراءات وشفافية المؤشرات لا في وعد أبوِي طويل الأجل. فالحكومة تُحاسَب مثل شركة كبيرة على مؤشرات زمن الانتظار، ومستوى الرضا، ونِسب إنجاز المشاريع ضمن الجداول الزمنية المعتمدة. وفي المقابل، تُكافَأ الجهات الحكومية التي تتجاوز المستهدفات بعقود تمويل إضافية أو ترقيات تصنيفية، ما يعمق التحوّل من “اقتصاد الريع الإداري” إلى “اقتصاد القيمة المعيارية” حيث يصبح الأداء هو الرأسمال السياسي الحقيقي.
من الجائزة إلى المنظومة الذكية
تعمل دائرة الاقتصاد والسياحة في دبي على ترقية نموذج جائزة دبي للجودة من دورة سنوية إلى منصة تقييم لحظي مدفوعة بالذكاء الاصطناعي، ومستندة إلى حلول تحليل تنبئي طوّرتها حديثاً مع شركاء تقنيين. وقد تعاونت الدائرة مع شركاء تقنيين لتطوير أدوات تحليل متقدمة تتنبأ بجودة الخدمات. ومن أبرز هذه الجهود، إنشاء نظام جديد يجمع بيانات السياحة من 20 سوقاً عالمية رئيسية. كما يتميز النظام بقدرته على التفاعل الفوري مع مؤشرات تجربة المتعاملين، مثل أوقات الانتظار الفعلية ونسب الشكاوى غير المغلقة، وأنماط التفاعل على وسائل التواصل الاجتماعي. وبناء على ذلك، يولّد تصنيفاً مستمراً يُعرَض في لوحات قيادة رقمية داخلية ويُضَخ في تطبيق Dubai Now الذي يضم أكثر من 280 خدمة حكومية وخاصة من 44 جهة، ليصبح المستخدم شريكاً في قياس الأداء لا مجرّد متلقٍ له.
فلسفياً، ينتقل مفهوم الجودة هنا من حدثٍ احتفالي إلى زمنٍ إداري حي. فشرعية الجهة لم تعد تُفحص مرة كل اثني عشر شهراً، بل تُوزَن على مدار الساعة بشبيه رقمي لنظام النجوم الذي تتبناه حكومة الإمارات عبر منظومة التقييم العالمي للخدمات (2–7 نجوم). وإدخال هذا التوقيت الفوري يحوّل المدير العام من صانع قرارات موسمية إلى مراقب ديناميكي يضبط الانحرافات كما يفعل طيار آلي، ويعيد صياغة الحوافز. إذ ستُربط عقود الشراكة والتمويل الحكومي بمعدل النجوم اللحظي لا بالصورة التاريخية للأداء.
إدارياً، يمنح التكامل بين الخوارزميات ولوحات التحكم القيادية قدرة على تحويل كل تفاعل رقمي إلى “نقطة بيانات”. وتوضع على سلسلة كتل غير قابلة للتلاعب، فتُحصّل ضريبة الشفافية مقدماً، وتُنذر المؤسسة قبل تدهور صورتها العامة. وبذلك يلتقي حق المتعامل في الخدمة، وخطر المستثمر في السوق، وشرعية السلطة التنفيذية في واجهة زمنية واحدة لا تتجاوز ثوانٍ معدودة معلنةً ولادة جودة تعيش على شاشات المسؤولين بالقدر نفسه الذي تعيش به على هواتف الجمهور.
معايير تُترجَم إلى واقع… أمثلة لمشاريع مكرَّمة في جوائز دبي للجودة
تتنافس الهيئات والمؤسسات والشركات سنوياً للفوز بجوائز دبي للجودة. وتعكس المشاريع الفائزة كيف تتحوّل المعايير إلى إنجازات واقعية تخدم المجتمع وتُحدث فرقاً ملموساً.
في دبي، فازت شرطة دبي بجائزة “الحكومة الذكية والتحول الرقمي” عن مبادرة “التوأمة الرقمية وإعادة بناء مسارح الجريمة”، التي تتيح إنشاء نسخ رقمية ثلاثية الأبعاد لمواقع الجرائم، مما يمكّن فرق الأدلة من معاينة المشهد وتحليله بدقة من زوايا مختلفة.
كما نالت هيئة الطرق والمواصلات بدبي جائزة “التقنيات” عن مشروع “مركز التحكم الموحد (EC3)”، الذي يجمع بيانات وسائل النقل المختلفة في غرفة عمليات موحدة تعمل على مدار الساعة، مما يعزز كفاءة إدارة حركة المرور والخدمات اللوجستية.
في أبوظبي، حصلت هيئة أبوظبي للدفاع المدني على جائزة “الحكومة الذكية والتحول الرقمي” عن مبادرة “أنظمة خدمات الإسعاف الذكية”، التي تستخدم أجهزة لوحية متصلة بأنظمة الإسعاف لترسل بيانات المريض الحيوية لحظياً وتفعّل خوارزميات تعطي الأولوية للطريق، مما قلل زمن الوصول ورفع فرص النجاة.
في عجمان، طبّقت بلدية عجمان مبادرة “استدامة الخرسانة الخضراء”، حيث استخدمت خلطات خرسانية تحتوي على مواد معاد تدويرها بنسبة تصل إلى 90%، مما خفّض انبعاثات الكربون بنحو 80% مقارنة بالخرسانة التقليدية، ونالت بذلك جائزة “البيئة والتطبيقات الخضراء”.
كما حصدت شرطة عجمان جائزة “تصفير الإجراءات البيروقراطية” عن مبادرة “إكرام الراحلين”، التي تدمج في معاملة واحدة استخراج شهادة الوفاة، إسقاط المخالفات، وتنظيم مسار الجنازة، مما خفّف العبء على ذوي المتوفى.
وأخيراً، طوّرت بلدية عجمان منصة “تصديق” لتوثيق عقود الإيجار رقمياً دون مستندات ورقية، مما سهّل الإجراءات، وساهم في تعزيز موثوقية السوق العقاري، ونالت بذلك جائزة “تصفير الإجراءات البيروقراطية”.
تُظهر هذه المبادرات كيف يمكن تحويل مفاهيم الجودة إلى حلول عملية تُبسّط حياة الناس وتقلل الأثر البيئي، مما يعكس التزام الجهات المختلفة بالتحسين المستمر والابتكار في تقديم الخدمات.
واليوم، وبعد ثلاثة عقود على رحلة بدأت بكتيّبٍ صغير في بنك المشرق، أضحت جائزة دبي للجودة بوصلة استراتيجية تُعيد معايرة معنى الخدمة والشرعية معاً. فقد اصطفّت المؤشرات مع القيم لتُنتج شكلاً من المواطنة المؤسسية، يُعد فيها أي ضعف في الأداء خللاً أخلاقياً بقدر ما هو خلل تقني. وتتحوّل الجودة إلى لغة مشتركة بين المتعاملين، والمستثمرين، وصُنّاع القرار. ويلخّص معالي محمد عبدالله القرقاوي جوهر هذه الرحلة بقوله: “من كان جيداً بقي متقدماً، والدوائر التي لم تكن جيدة أعادت اكتشاف نفسها، فالصدمة هي الوقود الذي يدفعنا نحو الأفضل”. بهذه الرؤية تحوّل الكتيّب الذي حمله موظف شغوف عام 1993 إلى منظومة تعاقدية تُقاس بها ثقة الجمهور، وتُقدَّر بها مخاطر الاستثمار، وتختبر بها الحكومة جدارتها كل يوم. فالجودة لم تَعُد وساماً احتفالياً على صدور المؤسسات، بل غدت ميزاناً يُوزن به صلابة العقد الاجتماعي لدبي، ويمنحها شرعيتها الحديثة كمدينة تُدار بحس أخلاقي بقدر ما تُدار بعقلية السوق.