
باتت الصناعات الإبداعية عنصراً أساسياً في معادلات التنمية الاقتصادية حول العالم، حيث لم يعد التصميم مجرد أداة جمالية، بل أصبح لغة تعبّر من خلالها المدن عن طموحاتها وتصوراتها المستقبلية. فالإبداع اليوم لا يُقاس بجمال الشكل فحسب، بل بقدرته على تحويل الأفكار إلى حلول، والمفاهيم إلى منتجات، والمساحات إلى تجارب. ضمن هذا المنظور، جاء إنشاء حي دبي للتصميم كمبادرة استراتيجية تهدف إلى بناء منظومة متكاملة تدعم الاقتصاد الإبداعي وتُرسّخ مكانة دبي كمركز عالمي للتصميم والابتكار.
بدايات الفكرة ونشأة المشروع
ولدت فكرة حي دبي للتصميم في مطلع العقد الماضي من إيمان بأن الاقتصاد الإبداعي ركيزة أساسية لمستقبل المدن. ففي يونيو 2013 أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، عن إنشاء منطقة متخصصة تحتضن صناعة التصميم والابتكار، لتكون منصة متكاملة تستقطب المصممين والشركات الإبداعية. وأوكلت مهمة تنفيذ المشروع إلى مجموعة تيكوم للاستثمارات، الذراع التطويري لمناطق الأعمال في دبي، والتابعة لدبي القابضة. خصصت للمشروع مساحة إجمالية تقارب 20 مليون قدم مربع، بدءاً بمرحلة أولى تغطي 1.2 مليون قدم مربع، ورُصد نحو 4 مليارات درهم لتطوير هذه المرحلة، التي تضمنت بناء عشر مبانٍ حديثة خلال 18 شهراً لتوفير مرافق عالمية المستوى تجمع بين المصممين المحليين والعالميين في بيئة أعمال حرة مخصصة للإبداع. هكذا وُضع حجر الأساس لحي مختلف عن أي مشروع سابق في المنطقة، بيئة حاضنة للمواهب ومختبر لأفكار التصميم ومكان قادر على منافسة عواصم التصميم العالمية في جذب الكفاءات.
لم يكن إنشاء حي دبي للتصميم، والذي يطلق عليه اختصاراً اسم D3، مجرد إضافة عمرانية جديدة، بل جاء استجابة لتوجه استراتيجي لدى دبي في تنويع اقتصادها وتعزيز قطاعات الاقتصاد المعرفي، فكما أنشأت الإمارة مدناً متخصصة للتكنولوجيا (مدينة دبي للإنترنت) وللإعلام (مدينة دبي للإعلام) في مطلع الألفية، أنشئ حي دبي للتصميم ليتكامل مع هذه المدن التخصصية. في أواخر عام 2013 أُنشئ “مجلس دبي للتصميم والأزياء” لرسم السياسات القطاعية ودعم المواهب المحلية، ما عكس جدية الإمارة في تنظيم الصناعة ودفعها نحو آفاق عالمية. في عام 2014 كانت أعمال البناء جارية على قدم وساق في الموقع بالتوازي مع إصدار التراخيص للشركات الراغبة في الانضمام قبل اكتمال البنية التحتية، لتغدو رؤية الحي أكثر وضوحاً، مجتمع إبداعي متكامل يوفر البيئة المثلى لتحويل دبي إلى مركز تصميم إقليمي وعالمي.
مراحل التطور والتنفيذ
افتُتح حي دبي للتصميم رسمياً في عام 2015 وسط احتفاء مجتمعي وإعلامي لهذه الخطوة المفصلية في مسيرة تنمية قطاع الصناعات الإبداعية بدبي. مثّل افتتاح المرحلة الأولى نقطة تحول، إذ اكتملت المباني الإحدى عشرة الأولى التي شكّلت قلب الحي، مصممة بهندسة معمارية عصرية تعكس روح الابتكار. تميّزت هذه المرحلة بتوفير مساحات مكتبية مرنة، إلى جانب استديوهات تصميم، ومعارض فنية مؤقتة، ومنافذ تجارية تستهدف مجتمع المبدعين. كما شملت المخططات الأولية مرافق تعليمية وتدريبية لسد الفجوة بين الفكر الأكاديمي والصناعة، فاستضاف الحي فروعاً لمؤسسات أكاديمية مرموقة في التصميم، بينها معاهد لتعليم الأزياء والتصميم شاركت في تخريج جيل جديد من المصممين الشباب.
وتعليقاً على افتتاح المشروع وتطور القطاع في دبي، قال رئيس دبي القابضة آنذاك معالي محمد القرقاوي، أن دبي القابضة تعمل ضمن رؤية متناسقة مع الرؤية الوطنية الأوسع، وتوجهاتنا الاستثمارية محكومة بالتوجهات العامة لاقتصادنا الوطني، من حيث التحول لاقتصاد المعرفة، والتركيز على قطاعات التكنولوجيا، والاستثمار في صناعة المحتوى، وخلق مجمعات للإبداع والابتكار في قطاعات علمية متقدمة.
بعد الافتتاح، تسارعت خطى التطوير في السنوات التالية لترسيخ مكانة الحي كوجهة جاذبة. شهد عام 2015 أيضاً إطلاق النسخة الأولى من أسبوع دبي للتصميم والذي أُقيمت معظم فعالياته في الحي، مستقطباً مئات المصممين والزوار من أنحاء العالم. وفي العام التالي، تأسست أكاديمية دبي للتصميم والابتكار، مؤسسة جامعية متخصصة ضمن نطاق الحي، بالشراكة مع جامعات عالمية، لتوفير تعليم عالٍ في مجالات التصميم المتنوعة. هذه الخطوات جعلت من حي دبي للتصميم أكثر من مجرد منطقة أعمال، فغدا بيئة متكاملة تجمع التعليم والتدريب مع ريادة الأعمال والإنتاج الإبداعي. في عام 2017 افتتح مركز حاضنات الأعمال in5 للتصميم، ليكون منصة لدعم الشركات الناشئة في مجالات التصميم والتكنولوجيا الإبداعية. وقدمت هذه الحاضنة منذ إنشائها دعماً وتوجيهاً لأكثر من 120 شركة ناشئة حتى اليوم، ما أسهم في بناء منظومة متماسكة تحفّز المواهب الشابة على تحويل أفكارها إلى شركات ومشاريع ناجحة. وفي زيارته إلى حي دبي للتصميم، عام 2017، صرّح الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: «تتمتع دولتنا بمكانة متميزة كمنصة عالمية للاقتصاد القائم على المعرفة، الذي حققنا فيه العديد من الإنجازات التي نعتزّ بها، وهدفنا ترسيخ موقع متقدم لدولتنا في قطاع التصميم على الصعيد الدولي، كي تظل الإمارات الوجهة الأولى المفضَّلة للشركات العالمية، والحاضنة التي ينطلق منها المبدعون، وشركات التصميم الجديدة إلى العالم».
خلال النصف الثاني من العقد، تواصلت عملية التطوير بوتيرة مدروسة. وعزز الحي بنيته التحتية بإضافة مرافق ترفيهية واجتماعية مثل ذا بلوك (The Block) وهو مشروع ترفيهي على الواجهة المائية داخل الحي يوفر مساحات مفتوحة ومرافق رياضية وترفيهية للمجتمع الإبداعي. كما توسّعت المساحات المخصّصة للمعارض والفعاليات الكبيرة، فاستضاف حي دبي للتصميم معارض دولية مثل داون تاون ديزاين الذي أصبح حدثاً سنوياً بارزاً في أجندة التصميم بالمنطقة. ومع نمو سمعة الحي، جذبت دبي فعاليات عالمية في مجال الأزياء أيضاً، فتعاون الحي مع مجلس الأزياء العربي لإطلاق أسبوع دبي للموضة كحدث رسمي لعرض أزياء الخريف والربيع ابتداءً من عام 2023. هذا التطور الأخير وضع دبي بقوة على خريطة عواصم الموضة، إلى جانب عواصم تقليدية مثل باريس وميلانو، ولكن بصبغة محلية خاصة تعكس تنوع العالم العربي.
وفي عام 2024، ومع وصول الحي إلى طاقته الاستيعابية شبه القصوى، أعلنت مجموعة تيكوم عن إطلاق مشروع توسعة كبير للحي يمثل المرحلة الثانية من تطويره. سيوفر المشروع الجديد ستة مبانٍ مكتبية إضافية من الفئة الأولى (Grade A) بمساحة تتجاوز 500 ألف قدم مربع، وذلك لمواكبة الطلب المتزايد من قبل الشركات الإبداعية العالمية والإقليمية الراغبة في الانضمام إلى مجتمع d3 . قدّرت كلفة التوسعة بحوالي 825 مليون درهم، ومن المتوقع إنجازها بالكامل بحلول النصف الأول من عام 2028. تتضمن خطط التوسعة دمج معايير الاستدامة في التصميم والبناء، حيث ستُشيّد المباني الجديدة وفق مواصفات المباني الخضراء وشهادات LEED العالمية. كما ستضيف التوسعة بُعداً معيشياً وخدمياً أوسع للحي، عبر توفير مرافق رياضية ومساحات عامة للفعاليات الإبداعية والاجتماعية، ومجموعة جديدة من المطاعم الراقية وممشى ممتد يربط الحي بالمجمعات السكنية المجاورة.
المكونات الحالية والمشهد العام للحي
بعد مرور نحو عشر سنوات على انطلاقه، تكوّن في حي دبي للتصميم مشهد نابض يُجسّد رؤية صانعيه. إذ يضم الحي أكثر من 1100 شركة تعمل في مجالات التصميم، والأزياء، والإعلام الإبداعي، تحت سقف هذه الشركات يبدع يومياً ما يزيد عن 20 ألف محترف بين مصمم وفنان وتقني، جاؤوا من شتى أنحاء المنطقة والعالم. يجمع هذا المجتمع بين دور الأزياء العالمية الراقية التي اتخذت من دبي مقراً إقليمياً لها، وعلامات تصميم محلية صاعدة وجدت في الحي منصة للانطلاق. ويسير أصحاب الأزياء الراقية جنباً إلى جنب مع مهندسي العمارة الداخلية ومصممي الغرافيك ومنتجي الأفلام القصيرة، في مزيج فريد يعكس تنوع القطاع الإبداعي نفسه.
يتميز المشهد العمراني في d3 بطابع حديث وأنيق يجمع بين الوظيفة والجمال. مبانٍ بواجهات زجاجية ونقوش هندسية مبتكرة تصطف حول ممرات مشاة مظللة بعناية، وفي ساحات الحي تنتشر قطع فنية عامة ومنحوتات معاصرة أضفت هوية فنية على المكان. يضم الحي في الوقت الراهن ثلاث مؤسسات أكاديمية بارزة، من بينها جامعة متخصصة في التصميم وبرامج تدريب مهني تغطي مجالات مثل تصميم الأزياء وإدارة العلامات التجارية الإبداعية. وجود هذه المؤسسات التعليمية داخل الحي يثري المشهد العام ويخلق صلة مباشرة بين الدارسين وسوق العمل الإبداعي، حيث يمكن للطلاب تنظيم معارضهم ومشاريع تخرجهم في فضاءات الحي المفتوحة والتفاعل مباشرة مع مجتمع المهنيين.
ومن العناصر الحيوية في مكونات الحي المساحات المشتركة وقاعات الفعاليات المجهزة بأحدث التقنيات. يستضيف حي دبي للتصميم سنوياً ما يفوق 100 فعالية متنوعة تتراوح بين أسابيع الموضة والمعارض الفنية وورش العمل والمؤتمرات المتخصصة. هذه الفعاليات، مثل أسبوع دبي للتصميم وأسبوع دبي للموضة، أصبحت مواعيد ثابتة على الأجندة العالمية يجتمع خلالها المصممون والخبراء من أكثر من 40 دولة في دبي. وخلال تلك الأسابيع، ينبض الحي بالأنشطة من عروض أزياء حية في الساحات، إلى معارض لتقنيات التصميم الحديثة في قاعات مبانيه، إلى جلسات حوارية يقودها روّاد الصناعة. وقد أسهمت هذه الفعاليات في ترسيخ سمعة الحي كمركز دولي للإبداع، فلا يكاد يختلف المشهد فيه في نوفمبر خلال أسبوع التصميم عن مشهد أحياء التصميم الشهيرة في لندن أو نيويورك في ذروة تألقها.
على صعيد الخدمات، تكاملت في حي دبي للتصميم منظومة تلبي احتياجات مجتمع المبدعين اليومية. فهناك مساحات عمل مشتركة(Co-working Spaces) تتيح للمستقلين والشركات الناشئة العمل بتكاليف معقولة وسط مجتمع محفّز. كما تتوزع في أرجاء الحي استوديوهات تصنيع ونماذج أولية مجهزة بتقنيات مثل الطباعة الثلاثية الأبعاد وآلات تشكيل المواد، وهي متاحة للمصممين وروّاد الأعمال لتحويل أفكارهم إلى نماذج واقعية. وعلى الجانب الترفيهي والاجتماعي، يحتضن الحي مجموعة من المعارض الفنية الدائمة والمؤقتة، حيث تعرض صالات العرض أعمال فنانين محليين وعالميين في مجالات الفن التشكيلي والتصميم الجرافيكي وغيرها. وأصبح الحي مقصداً لعشاق الثقافة في دبي، سواء للمشاركة في الورش الإبداعية التي تُنظم دورياً أو لحضور عروض الأفلام المستقلة في الهواء الطلق ضمن فعاليات خاصة.
ولا يكتمل المشهد دون الإشارة إلى قطاع التجزئة وأنماط الحياة داخل d3 فالحي يضم ما يزيد عن 50 متجراً للعلامات التجارية الإبداعية، من بوتيكات الأزياء المفصّلة إلى متاجر الأثاث العصري وإكسسوارات المنازل. الكثير من هذه المتاجر يديرها مصممون إماراتيون وعرب شباب وجدوا الدعم والمساحة في الحي لعرض منتجاتهم مباشرة للجمهور المحلي والزوار العالميين. إلى جانب ذلك، تنتشر في حي دبي للتصميم مطاعم ومقاهٍ بتصاميم داخلية مبتكرة، مما حوله إلى وجهة اجتماعية مفضلة لشريحة واسعة من الشباب والمهنيين. يمكنك أن ترى مجموعات من روّاد التصميم يتبادلون الأفكار على طاولات مقهى أنيق في إحدى ساحات الحي، أو تلمح اجتماعات عمل غير رسمية تدور في ركن هادئ بإحدى صالات العرض الفنية. هذه التفاعلات اليومية غذّت مجتمعاً متلاحماً، يعرف أعضاؤه بعضهم البعض، ويتشاركون الشغف ذاته، في بيئة تشجع العفوية والابتكار.
الإضافة الاقتصادية والثقافية والفكرية لحي دبي للتصميم
خلال تصريح له عام 2013، معلقاً على إطلاق عددٍ من مشاريع دبي القابضة، والتي كان حي دبي للتصميم من أبرزها، قال معالي محمد القرقاوي، أن “دبي القابضة ظلت تحقق نمواً إيجابياً في صافي أرباحها خلال السنوات السابقة، معتمدة على استراتيجية محكمة في إدارة الأصول والديون، مع الاستمرار في الاستثمار في مجموعة من القطاعات الاستراتيجية، وجاءت نتائج 2013 القوية، لتعكس نجاح هذه الاستراتيجية، وصحة القرارات التي أخذتها المجموعة خلال الفترات الماضية، ولدينا استراتيجية واضحة لتحقيق استدامة مستقبلية لهذا النمو”.
وقد شكّل حي دبي للتصميم منذ نشأته إضافة نوعية لمشهد دبي الاقتصادي والثقافي، تجلت أبعادها على عدة مستويات. فعلى الصعيد الاقتصادي، يُعد الحي ركيزة أساسية في استراتيجية دبي للاقتصاد الإبداعي التي تستهدف مضاعفة إسهام القطاع الإبداعي في الناتج المحلي وزيادة عدد الشركات والوظائف الإبداعية بحلول عام 2030. يحتضن d3 اليوم المئات من الشركات التي تخلق بدورها آلاف الفرص الوظيفية في مجالات التصميم والتكنولوجيا والفن، مما يجعل الحي محركاً لنمو قطاع بات يوصف بأنه “نفط المستقبل” للاقتصادات القائمة على المعرفة. وقد أسهم المجتمع الإبداعي المتكوّن في الحي خلال العقد الماضي في إثراء الاقتصاد المعرفي لدبي من خلال إنتاج الأفكار والمنتجات ذات القيمة المضافة العالية، سواء كانت تصاميم أزياء تعرض في منصات عالمية، أو حلول تصميمية تُصدَّر لشركات إقليمية، أو فعاليات سياحية ثقافية تجذب الزوار وتضيف إلى العائد الاقتصادي. وبينما تستقطب دبي استثمارات في قطاعات إبداعية متنوعة كالألعاب الإلكترونية والفنون الرقمية، يوفر الحي بيئة أعمال تنافسية مدعومة بإعفاءات المناطق الحرة وبنية تحتية متقدمة، مما يشجع رواد الأعمال والمستثمرين على اختيار دبي مقراً لمشاريعهم الإبداعية.
على الصعيد الثقافي والاجتماعي، لعب حي دبي للتصميم دوراً مهماً في إبراز الوجه الثقافي المعاصر لدبي. فالإمارة التي عُرفت عالمياً بنهضتها العمرانية والاقتصادية، باتت تُعرف أيضاً بأنها حاضنة للإبداع الفني والتصميمي. في عام 2017، اختارت منظمة اليونسكو دبي كأول مدينة في الشرق الأوسط ضمن شبكة “المدن المبدعة” في مجال التصميم، وجاء هذا الاعتراف الدولي مدفوعاً إلى حد كبير بإنجازات d3 ومشهد التصميم الحيوي فيه. ساعد الحي في ترسيخ مجتمع إبداعي محلّي يفتخر بهوية ثقافية حديثة ومتصلة بجذوره، فالمصممون الإماراتيون الشباب وجدوا في الحي منصة لإحياء التراث بأسلوب معاصر، عبر مبادرات مثل مجموعات التصميم الإماراتي التي تبرز الحِرف التقليدية بتصاميم حديثة. كما أصبحت فعاليات الحي ملتقى ثقافي، حيث يلتقي المبدعون من مختلف الدول العربية والأجنبية لتبادل الخبرات ووجهات النظر، ما عزز موقع دبي كجسر ثقافي بين الشرق والغرب في ميدان التصميم. ومن الناحية الاجتماعية، أسهم تجمع هذا العدد من العقول المبتكرة في مكان واحد في خلق حوار فكري مستمر حول مستقبل مدينتهم. فالنقاشات التي تدور في قاعات المؤتمرات أو على هامش المعارض كثيراً ما تتطرق إلى تحديات المجتمع وسبل معالجتها بتوظيف التصميم والإبداع. وهكذا تحوّل الحي إلى مركز تفكير حضري يقدّم مقترحات وأفكار لمشاريع المدينة الأوسع نطاقاً.
أما من المنظور الفكري والتعليمي، فإن حي دبي للتصميم يمثل مدرسة مفتوحة للتعلم المستمر. فالاحتكاك اليومي بين الخبراء والمبتدئين خلق مناخاً تُنقل فيه المعرفة بشكل حر وتلقائي. طلاب التصميم يتعلمون من مصممين مخضرمين عبر برامج التدريب المهني والتوجيه التي تحدث بشكل غير رسمي في المساحات المشتركة. كما تستضيف المؤسسات في الحي سلسلة منتظمة من الندوات والمحاضرات حول موضوعات متقدمة كتصميم المدن الذكية والاستدامة في التصميم وغيرها، تُفتح مجاناً للجمهور المهتم. هذه الأنشطة تجعل الحي مساهماً في رفع الوعي المجتمعي بقيمة التصميم في الحياة اليومية، وتؤسس لأجيال تقدّر الفن والإبداع كجزء لا يتجزأ من التطور الحضاري. ومن خلال الجوائز والمبادرات التحفيزية مثل جائزة حي دبي للتصميم التي أُطلقت في 2025 لتكريم المبدعين سنوياً، حيث يتم تسليط الضوء على المواهب الواعدة وتحفيز العقول الشابة على تبني التفكير التصميمي (Design Thinking) منهجاً لإيجاد حلول مبتكرة للتحديات. كل ذلك جعل الحي مختبراً فكرياً تنهَل منه باقي قطاعات الدولة في مجالات كالابتكار الحكومي وتصميم الخدمات.
المدن الذكية والمجمعات الإبداعية: محاور تكاملية في استراتيجية دبي القابضة
تدير حي دبي للتصميم (d3) مجموعة تيكوم للاستثمارات، الذراع التطويري لمناطق الأعمال في دبي، والتابعة لدبي القابضة. ويُعد الحي جزءاً من رؤية أوسع لتطوير منظومة المدن الذكية في الإمارة، حيث يندرج تحت مبادرة “سمارت سيتي دبي”، التي أطلقتها دبي القابضة لتعزيز الاقتصاد الرقمي والإبداعي. ويتكامل هذا المشروع مع مبادرات أخرى أطلقتها المجموعة في الخارج، مثل سمارت سيتي مالطا وسمارت سيتي كوتشي في الهند، ضمن نموذج استثماري موحد قائم على الابتكار والبنية التحتية الذكية.
وتدير تيكوم 10 من أكبر مجمعات الأعمال في دبي منها مدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام ومدينة دبي الصناعية إضافة إلى حي دبي للتصميم وحاضنة الأعمال in5. ويأتي ذلك ضمن استراتيجية أكبر لمجموعة دبي القابضة، المظلة التي تندج تحتها مجموعة تيكوم، والتي شهدت خلال فترة تأسيس حي دبي للتصميم نمواً مالياً استثنائياً يفوق كل ما سبقه منذ تأسيس الشركة القابضة رسمياً عام 2004. وقد وصف معالي محمد القرقاوي، رئيس دبي القابضة آنذاك، الأداء بكونه “الأعلى منذ التأسيس، مثبتاً صحة الاستراتيجية التي قامت عليها دبي القابضة”.
في سياق عالمي مقارن
نهضة حي دبي للتصميم لم تحدث في معزل عن توجه عالمي، بل جاءت متناغمة مع ما تشهده مدن كبرى من استثمار في مناطق الإبداع. فمدن مثل لندن ونيويورك تمتلك أحياء تزدهر فيها صناعات التصميم والفن، وكذلك شهدت مدن آسيوية وأوروبية نشوء مناطق متخصصة مماثلة. إلا أن تجربة دبي تحمل تفردها من نواحٍ عدة. فبينما نمت بعض أحياء التصميم العالمية طبيعياً عبر عقود في أزقة تاريخية أو مناطق صناعية قديمة، جاء d3 كمشروع مخطط له من البداية بطموح أن يكون مجتمعاً إبداعياً متكاملاً من الصفر. هذا الجمع بين الرؤية التخطيطية والدعم الحكومي من جهة، وروح المجتمع الإبداعي الحر من جهة أخرى، جعل الحي نموذجاً هجيناً يوازن بين التنظيم المرن والبنية التحتية المتقدمة. وقد نجحت دبي خلال عقد واحد في ما تطلب من مدن أخرى عشرات السنين لتحقيقه، أي بناء سمعة دولية كمركز للإبداع، مستفيدة من موقعها كمدينة عالمية وجاذبيتها في مجالات أخرى كالسياحة والأعمال.
اليوم، يقف حي دبي للتصميم كتجربة رائدة في المنطقة، فهو أول حي تخصصي للصناعات الإبداعية في منطقة الخليج وأكبرها حجماً. ويشكل الحي جزءاً من قصة التحول الأوسع لدبي نحو اقتصاد أكثر تنوعاً يقوده الابتكار. ومع مضي دبي قدماً في تنفيذ أجندتها الاقتصادية الطموحة D33 الرامية لمضاعفة حجم اقتصادها خلال العقد المقبل، يلعب d3 دوراً محورياً في تحقيق أهداف هذه الأجندة عبر جذب مزيد من الاستثمارات الإبداعية وترسيخ مكانة دبي على خارطة الصناعات الثقافية عالمياً. لقد أثبت العقد الأول من عمر الحي قدرة هذه المنصة على تمكين التصميم من صناعة المستقبل في دبي، فكل مبنى جديد، وكل شركة ناشئة ناجحة، وكل فعالية عالمية يستضيفها الحي هي لبِنَة في بناء اقتصاد أكثر ابتكاراً وإنسانية.
استطاع حي دبي للتصميم أن يتحول خلال فترة وجيزة من فكرة طموحة إلى كيان نابض بالحياة والتأثير. لقد جمع بين رؤية القيادة وثقة المستثمرين وحماس المبدعين في بوتقة واحدة، فكانت المحصلة وجهة عالمية للإبداع تُسهم في تشكيل ملامح مستقبل دبي الاقتصادي والثقافي. وبينما يستعد الحي لعقده الثاني بخطط توسعة وتطوير جديدة، تظل روحه الأساسية ثابتة: سردية تصميمية مستمرة تروي كيف يمكن لمدينة أن تُعيد تخيّل نفسها وتصمم مستقبلها بيد أبنائها وشركائها المبدعين. تلك السردية تجعل من حي دبي للتصميم تجربة ملهمة ضمن تجارب المدن العالمية، ودليلاً حياً على أن الاستثمار في الإبداع هو استثمار في المستقبل نفسه.