
في إطار سعي دبي خلال العقدين الماضيين إلى تنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على القطاعات التقليدية، تم إطلاق مشروع مدينة دبي الصناعية في نوفمبر 2004 كجزء من استراتيجية أوسع لتطوير البنية التحتية الصناعية في الإمارة. وجاء هذا المشروع ضمن رؤية يقودها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم بصفته حاكم دبي، لتوسيع قاعدة الإنتاج وتوفير بيئة داعمة للأعمال.
كان الهدف من إنشاء المدينة تعزيز مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي لدبي، وتوفير مساحات مخصصة للصناعات التحويلية والخفيفة، إلى جانب تسهيل الخدمات اللوجستية وربط المستثمرين بالأسواق الإقليمية. وشكّلت المدينة خطوة عملية نحو بناء اقتصاد أكثر تنوعاً واستدامة، يعكس التحولات التي شهدتها دبي في مسارها التنموي خلال السنوات الماضية.
وفي نهاية عام 2024، سجّلت مدينة دبي الصناعية نموًا ملموسًا في أدائها التشغيلي، إذ تجاوز عدد الشركات المسجلة فيها 1,100 شركة، وارتفع عدد المصانع المشغّلة إلى أكثر من 350 مصنعًا. كما بلغت قيمة الاستثمارات الجديدة في المدينة نحو 1.7 مليار درهم، شملت قطاعات متنوعة مثل الأغذية والمشروبات، والطاقة، والصناعات الخفيفة والمعدات. وتُنتج المصانع العاملة حاليًا أكثر من 70 ميغاواط من الطاقة النظيفة سنويًا. ويُعد موقع المدينة القريب من ميناء جبل علي ومطار آل مكتوم ومحطة قطار الاتحاد عاملًا رئيسيًا في دعم قدرتها على استقطاب الاستثمارات وتعزيز ارتباطها بالأسواق الإقليمية والعالمية.
الخلفيات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية للمشروع
حين استشعرت دبي في تسعينيات القرن الماضي أن اقتصاد المستقبل لا يكتمل بالخدمات المتقدمة وحدها، بل يحتاج إلى رافعة إنتاجية تُحوِّل المعرفة اللينة إلى قيمة مادية صلبة، بدأت الإمارة برسم خريطة طريق لقطاع صناعي رفيع يكمل نجاح مدنها المتخصصة في الإنترنت والإعلام والمال. ومع مطلع الألفية، تسارعت التحولات العالمية نحو التصنيع عالي التقنية، فانفتحت أمام صانعي القرار في الإمارة نافذة تاريخية لترسيخ حضور صناعي قادر على اقتناص سلاسل الإمداد الجديدة، مستفيدين من موقع جغرافي يتوسط مسارات التجارة العابرة للقارات. لهذا أُعلن في نوفمبر 2004 عن مدينة دبي الصناعية باعتبارها مشروعاً “يُوَلِّد نمط تنمية اقتصادية أكثر توازناً ويرفع مساهمة القطاعات الإنتاجية المتقدمة في الناتج المحلي”، وقد وصف معالي محمد القرقاوي، رئيس دبي القابضة آنذاك – المظلة التي تندرج تحتها مجموعة تيكوم المسؤولة عن المدينة الصناعية- جوهر المبادرة بقوله: “إن إقامة مدينة دبي الصناعية يتكامل مع الخطط الاستراتيجية للدولة لتنويع بنيتها الاقتصادية وتعزيز دور القطاعات غير النفطية مثل السياحة والتجارة والصناعة والخدمات في دفع مسيرة التنمية في البلاد”.
منذ تلك اللحظة، تحوّلت المدينة إلى مختبر لتجريب سياسات الحوافز الصناعية: بنية تحتية بدأت بست مناطق قطاعية متخصصة، وتسهيلات جمركية وضريبية جذبت تدفقات استثمارية مبكرة، قبل أن تتسع رقعتها اليوم بإضافة 13.9 مليون قدم مربّع من الأراضي الجديدة لمواجهة الطلب المتنامي على المساحات الصناعية المتكاملة. واليوم، بمرور عشرين عاماً على التأسيس، تضم المدينة أكثر من300 مصنع قائم في قطاعات الأغذية والمعادن والآلات والطاقة النظيفة، وتخدم شبكة عملاء تجاوزت 800 شركة محلية وعالمية، ما رفع معدل إشغال الأراضي الصناعية إلى 97٪ بحسب أحدث البيانات. بهذا الفعل التطبيقي، لم تبق دبي الصناعية مجرد منطقة لوجستية، بل غدت منصة ابتكار وتصنيع متقدم تُموضع رأس المال البشري في قلب المعادلة التنموية، وتؤكد أن الاستثمار في المعرفة لا يكتمل إلا إذا تحول إلى خطوط إنتاج تحمل توقيع المدينة على أسواق العالم.
الظروف التي سبقت النشأة والتأسيس:
خلال إحدى المقابلات الاعلامية اللاحقة لاطلاق مدينة دبي الصناعية، تطرق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إلى أهمية الصناعة وتنويع قطاعات الاقتصاد بقوله: “التنمية المستدامة تعني تفعيل جميع قطاعات الاقتصاد وهذا يتطلب تهيئة المناخ المناسب باستشراف المستقبل والاستعداد لمرحلة ما بعد النفط.. ولتحقيق هذه المهمة يجب التركيز على مجالات المعرفة والعلوم والبحث العلمي.. فهي مدخل التطور والطفرة الصناعية للاقتصاد العالمي”.
عندما أعلنت دبي عن مشروع مدينة دبي الصناعية في نوفمبر 2004، كانت قد استكملت عملياً البنية التحتية التي تؤهلها لاحتضان صناعة متقدمة متمثلة بميناء جبل علي الأكبر في المنطقة، ومطار دولي يتوسع سريعاً. هذا التمازج بين النقل البحري والجوي والبري عزز قدرة المستثمرين على جلب المواد الأولية وتصدير المنتجات من دون تكاليف زمنية مرهقة.
على المستوى التنظيمي، أتاح توسّع المناطق الحرة ونظام الإعفاءات الجمركية للسلع الصناعية الموجهة إلى تلك المناطق تقليص تكاليف الإنتاج والتصدير، فالسلع الداخلة إلى المناطق الحرة معفاة من الرسوم، وكذلك إعادة التصدير إلى أسواق خارج دول مجلس التعاون، ما رفع جاذبية التصنيع الموجه للتجارة العابرة. إلى جانب هذه الحوافز، تكفلت الهيئات الحكومية المختصة بإعداد دراسات قطاعية أوضحت أن إزالة القيود البيروقراطية وتوفير مزيج مرن من الأراضي والحوافز المالية يمكن أن يستقطبا تدفقات رأسمالية ضخمة إلى الصناعة.
هكذا تضافرت البنية التحتية العالمية، والموقع الجغرافي الفريد، والإطار التنظيمي المُحفِّز لتشكيل “كتلة حرجة” جعلت الإطلاق في 2004 يبدو خطوة محسوبة ورابحة.
في ظل تلك الخلفيات والظروف المواتية، صدر القرار التاريخي بإنشاء مدينة دبي الصناعية بأمر من الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي آنذاك، في أواخر عام 2004. جاء هذا الأمر كجزء من استراتيجية دبي الطموحة لتنويع الموارد الاقتصادية، واستهدف المشروع منذ البداية استقطاب المستثمرين الصناعيين من مختلف أنحاء العالم. تم اختيار موقع المدينة بعناية بالقرب من ميناء جبل علي ومطار آل مكتوم الدولي لاحقاً، على مساحة تتجاوز 52 كيلومتر مربع. هذا الموقع الاستراتيجي جعل المدينة صلة وصل بين الشرق والغرب، مستفيدة من البنية التحتية للموانئ والمطارات والطرق التي تربطها إقليمياً ودولياً.
أُنيطت مسؤولية تطوير المشروع وإدارته إلى مجموعة دبي القابضة، التي تأسست رسمياً عام 2004، عبر ذراعها المختص بالمجمعات الاستراتيجية، مجموعة تيكوم التي تدير مجمعات أعمال متعددة في الإمارة. وتعد مدينة دبي الصناعية اليوم واحدة من عشرة مجمعات أعمال تحت مظلة تيكوم، التي تشمل مدينة دبي للإعلام ومدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي الأكاديمية وغيرها. وهذا التكامل المؤسسي ضمن مجموعة قابضة كبيرة وفر للمدينة الصناعية الدعم المالي والإداري المطلوب منذ المراحل الأولى.
عند الإعلان عن المشروع، وُضعت له أهداف واضحة وطموحة تتمثل في إقامة مدينة صناعية متكاملة الخدمات تضم قطاعات متنوعة مثل الصناعات الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، وتوفير بنية تحتية عالمية المستوى تخدم تلك الصناعات. تضمن التصور التخطيطي للمدينة ستة مناطق صناعية متخصصة تغطي: صناعات الأغذية والمشروبات، وصناعات النقل والمعدات، والآلات والمعدات الميكانيكية، والمنتجات المعدنية، والصناعات المعدنية الأساسية، والصناعات الكيميائية.
تجدر الإشارة إلى أن التسهيلات الاستثمارية شكّلت حجر زاوية في تأسيس المدينة منذ يومها الأول. فقد أعلنت حكومة دبي أن المستثمرين الصناعيين في المدينة سيتمتعون بحوافز متعددة تشمل، توفير الأراضي الصناعية بأسعار تنافسية، وإجراءات ترخيص مبسّطة، وإعفاءات ضريبية وجمركية لفترات طويلة، إضافة إلى بنية تحتية متطورة من كهرباء ومياه واتصالات مصممة خصيصاً لاحتياجات المشاريع الصناعية، هذه الحزمة من المزايا استهدفت معالجة المعوقات التي كانت تعترض نمو الصناعة في السابق، بحيث تُقدّم المدينة بيئة جاذبة تضاهي أفضل المناطق الصناعية عالمياً.
وفي حفل التدشين الرسمي للمشروع، أكد الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أن الإمارات تمضي في بناء مستقبلها الصناعي بنفس العزيمة التي بنت بها نهضتها في قطاعات أخرى. ولعل أجمل تجسيد لروح المشروع وأبعاده ما قاله سموه بعد سنوات قليلة وهو يضع ملامح الرؤية الاقتصادية: “المستقبل لا يأتي إلينا بل نحن من نستشرفه ونشكّله ونمسك زمام المبادرة في ابتكار تقنياته وتوظيفها لتحقيق التنمية والتطور وبناء اقتصاد قائم على المعرفة… لا نقف في موقع المتفرج بل الفاعل والمؤثر في دوران عجلة المستقبل عبر المسرّعات والابتكار”.
وخلال تعقيبه على الأداء السنوي المتصاعد لدبي القابضة، ونجاح مشاريعها والتي تأتي مدينة دبي الصناعية ضمنها، قال معالي محمد القرقاوي في بداية العام 2016: “تواصل دبي القابضة أداءها المتميز الذي أصبحت معه جزءاً رئيساً من نسيج الاقتصاد والحياة، وتطبيق استراتيجيتها الرامية لتأسيس ودعم اقتصاد معرفي يعتمد على الابتكار المستمر بما يتماشى مع رؤية دبي وطموحها للتحول إلى المدينة الأذكى والأكثر إنتاجية في العالم”.
المراحل الزمنية لتطور المدينة 2004-2025
منذ الكشف عن مدينة دبي الصناعية في نوفمبر 2004، تولّت الإمارة تشكيل منظومة إنتاجية متدرجة الطبقات استندت في مرحلتها التأسيسية إلى استثماراتٍ بنية تحتية مكثّفة؛ فقد شُيّد مجمّع مستودعات يمتد على 22 مليون قدم مربع أنجز على ثلاث مراحل. أُنجزت المرحلة الأولى في منتصف 2008، واكتمل إنشاء الثانية في نهاية العام نفسه، فيما خُصصت الثالثة للتأجير بحلول منتصف 2009. هذا الإنجاز المبكر وفر شبكة طرق ومرافق قادرة على تشغيل أولى المصانع رغم تباطؤ الاستثمار الذي فرضته أزمة 2008، وهو تباطؤ احتوته حزم دعم حكومي حافظت على وتيرة التطوير.
مع انحسار تداعيات الأزمة، دخلت المدينة بين 2009 و2014 مرحلة توسّعٍ قطاعي، ازدادت فيها مشاريع المعادن ومواد البناء والخدمات اللوجستية، مستفيدةً من بوابة جبل علي، ومطار آل مكتوم، ومعززة بشبكات كهرباء ومياه واتصالات محدثة. النتيجة كانت ترسيخ موقع دبي على خريطة الصناعة الإقليمية، مع تدفق رؤوس أموال عربية ودولية إلى قطاعات أساسها الطلب العمراني الخليجي المتسارع.
ابتداءً من 2015 تحوّلت البوصلة إلى التصنيع عالي القيمة؛ فظهرت خطوط إلكترونيات، ومجمّع لإنتاج المركبات الكهربائية بطاقة تصميمية أولية 10 آلاف سيارة سنوياً داخل مصنع مساحته 45 ألف قدم مربع، ثم رُفع السقف لاحقاً إلى 55 ألف سيارة سنوياً استجابةً لطلب الأسواق الخليجية على التنقل الأخضر. هذا التحول تزامن مع إطلاق وزارة الصناعة “مشروع 300 مليار” الذي يهدف إلى تطوير وتحفيز القطاع الصناعي في دولة الإمارات، ورفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي من 133 مليار درهم إلى 300 مليار درهم بحلول عام 2031، ودعم البحث والتطوير في تقنيات الطاقة النظيفة، ما رسخ دور المدينة كمنصة للابتكار الصناعي.
ومع بدء الثورة الصناعية الرابعة بين 2019 و2021، تبنت مصانع مختارة أنظمة أتمتة وذكاء اصطناعي لجمع البيانات وتحسين الكفاءة، فيما عقدت شراكات أكاديمية لتعزيز البحث التطبيقي وتمكين الكفاءات الوطنية في هندسة التصنيع الرقمي، لتغدو المدينة حاضنة فعلية للصناعات الذكية في الخليج.
الذروة جاءت بين 2022 و2025، إذ وقّعت المدينة سلسلة اتفاقات مع شركات آسيوية “نسبة كبيرة منها صينية” لإنشاء أو تجميع مركبات كهربائية ومكونات طاقة متجددة، وضُخ أكثر من 410 ملايين درهم لضم 13.9 مليون قدم مربع إضافية إلى المخزون العقاري الصناعي. ارتفع معدل إشغال الأراضي إلى 97% في الربع الأول من 2024 وارتفع عدد العملاء إلى أكثر من 1000 شركة، ما جعل المدينة الذراع التنفيذية لأجندة دبي الاقتصادية D33 وخط الدفاع الإنتاجي ضد تقلبات سلاسل الإمداد العالمية.
بهذا المسار المتصل والممتد على عقدين، انتقلت دبي الصناعية من مشروع بنية تحتية واعد إلى منصة إقليمية متكاملة تربط رأس المال البشري بالتقنيات الصناعية المتقدمة، وتعيد رسم جغرافيا التصنيع في الشرق الأوسط.
السياسات الحكومية الداعمة
لإدراك حجم التحول الذي أحدثته مدينة دبي الصناعية، تكشف البيانات الرسمية عن مؤشرات واضحة لمسارها التصاعدي حتى عام 2025. فقد ارتفع عدد الشركات العاملة داخل المدينة بنهاية عام 2024 بأكثر من 10% مقارنة بالعام السابق، متجاوزاً 1100 شركة. ويؤكد هذا النمو ما توصف به المدينة اليوم من احتضان آلاف من أبرز الشركات العالمية والإقليمية وفق التقارير الصحافية المحلية، لترسّخ مكانتها كأحد أكبر التجمعات الصناعية في المنطقة.
ولا يقتصر الأمر على عدد الشركات، إذ بلغ عدد المصانع المنتجة أكثر من 350 مصنعاً قيد التشغيل مع نهاية 2024، وهو ارتفاع نسبته 16% عن العام الذي سبقه، ويتوزّع هذا النسيج الإنتاجي بين الصناعات الغذائية والدوائية والبلاستيكية والمعدنية وغيرها، بينما يتصدر قطاع الأغذية والمشروبات المشهد بأكثر من 300 مصنع قائم داخل المدينة، ما جعل دبي مركزاً إقليمياً حاسماً في ضمان الأمن الغذائي وسلاسل الإمداد، خصوصاً بعد جائحة كوفيد-19.
أما الاستثمارات، فقد استقطبت المدينة خلال عام 2022 والنصف الأول من 2023 ما قيمته نحو 2.8 مليار درهم ، تركز جانب كبير منها في الغذاء والتصنيع المتقدم. وواصلت الزخم في 2024، حيث جذبت استثمارات قاربت 350 مليون دولار (1.3 مليار درهم) في قطاع الأغذية والمشروبات ، قبل أن تعلن أخيراً عن مشاريع صناعية جديدة تقارب قيمتها مليار درهم، من بينها مصنع أحزمة مطاطية لشركة “يونيفرسال” ومصنع بوليمرات لشركة “ستارز للصناعات البلاستيكية”.
كما بلغت نسبة إشغال الأراضي الصناعية قرابة 97 % بالربع الأول من 2023 ، مع معدل نمو سنوي بلغ 12%، وتنعكس هذه الديناميكية على الناتج المحلي، إذ ساهم قطاع الصناعات التحويلية بنحو 8.4 % من إجمالي الناتج المحلي لإمارة دبي عام 2024، وكان مسؤولاً عن 6.2% من نمو الناتج خلال الأشهر التسعة الأولى من العام نفسه. وعلى المستوى الاتحادي ارتفعت مساهمة الصناعة إلى نحو 10% في 2022، بينما قفز الناتج الصناعي إلى قرابة 205 مليار درهم بحلول 2023، في مسار متسارع نحو هدف 2031.
كذلك أسهمت الطاقات الإنتاجية المتزايدة في تعزيز الصادرات، إذ تجاوزت الصادرات الصناعية الإماراتية 50 مليار دولار في 2023. وتستفيد دبي الصناعية من قربها اللوجستي من ميناء جبل علي التاسع عالمياً في حجم المناولة، ليصبح التكامل بين التصنيع والتجارة عامل توازن إضافي للاقتصاد، ويُحسّن الميزان التجاري مع كل شحنة جديدة تخرج من مصانعها.
جدير بالذكر أن هذا الإطار الكمي يترافق مع توجه نوعي نحو الاستدامة والابتكار، فعديد المصانع تطبّق برامج كفاءة الطاقة وإعادة تدوير المخلفات، بينما تواصل الجهات المشرفة مراقبة مؤشرات الأداء لضمان توافق التوسع مع تحسين الإنتاجية. وتُبرهن الأرقام السابقة من نمو الشركات والمصانع إلى الاستثمارات الوازنة ونِسَب الإشغال المرتفعة والمساهمة المتزايدة في الناتج المحلي والصادرات على أن مدينة دبي الصناعية نجحت في تحويل الرؤية إلى واقع رقمي قابلٍ للقياس خلال فترة زمنية وجيزة.
تمدد عمراني وأثر اجتماعي
على أطراف مدينة دبي الصناعية، أخذت الخرائط العمرانية لجنوب دبي تتغير. مجمّعات سكنية جديدة بُنيت لاستيعاب العمال والموظفين وأُضفيت عليها خدمات متكاملة، فانتعشت مناطق كانت شبه خالية من السكان في جوار جبل علي. وفي الجامعات، أطلقت معامل الأبحاث التطبيقية شراكات مع مصانع المدينة لإيجاد حلول إنتاجية أكثر كفاءة، بينما موّلت المدينة نفسها حاضنات أعمال صناعية ومشاريع تخرّج لطلبة الهندسة. كل ذلك جرى ضمن إطار حرص منذ البداية على ألا يفصل عجلة النمو الاقتصادي عن ضرورات الاستدامة. فقد طُوِّرت أنظمة توزيع الموارد وتدوير النفايات للحد من الهدر، وأُنشِئت مرافق لمعالجة المخلفات الصناعية. وتكاملت هذه الجهود مع استراتيجية دبي للطاقة النظيفة 2050 التي تشجع تبنّي الحلول الشمسية داخل خطوط الإنتاج، وهو خيار يسهل تحقيقه مع قرب مجمّع محمد بن راشد للطاقة الشمسية أكبر مجمّع من نوعه في المنطقة.
وهكذا لم تقتصر إنجازات مدينة دبي الصناعية على أرقام الناتج والاستثمارات، بل تجاوزتها إلى إعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والاقتصاد والبيئة. فهي تشهد اليوم على قدرة دبي على ترجمة رؤاها إلى واقع ملموس يصل نفعه إلى المستثمر والمستهلك والمواطن، ويؤسس لتحوّل بنيوي طويل الأمد في هيكل الاقتصاد الإماراتي، رغم التحديات الملازمة لأي مشروع بهذا الحجم والطموح.
تطلعات مستقبلية
تقف دبي الصناعية اليوم على أعتاب مرحلة جديدة أكثر تقدماً وتحدياً في آن واحد. فالسنوات القادمة ستشهد دخول تقنيات الثورة الصناعية الرابعة على نحو أعمق، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد في خطوط الإنتاج. وهذا يتطلب استمرار الاستثمار في البنية التحتية الرقمية وتطوير مهارات القوى العاملة لتواكب هذه التحولات. كما أن المنافسة العالمية على جذب الصناعات المتقدمة (مثل صناعة الرقائق الإلكترونية أو الصناعات الدوائية الحيوية) ستحتدم، مما يحتم على دبي تقديم حزم ابتكارية من الحوافز والميزات التفاضلية كي تحظى بنصيبها من هذه الصناعات المستقبلية.
إن السياسات الحكومية المعلنة من أجندة دبي الاقتصادية D33 الهادفة لمضاعفة الاقتصاد بحلول 2033، إلى رؤية نحن الإمارات 2031 كلها توفر إطاراً داعماً لاستمرار نمو القطاع الصناعي. وإذا ما حافظت مدينة دبي الصناعية على مرونتها وقدرتها على التكيف مع المتغيرات، فمن المتوقع أن تلعب دوراً محورياً في تحقيق تلك المستهدفات الوطنية.