
منذ نهاية القرن الماضي، أخذت المعلومات وكتل البيانات مكانة تضاهي أهم الموارد الطبيعية، وصارت مراكز تخزين ومعالجة البيانات بمثابة القلب النابض للاقتصاد العالمي الحديث. لقد أصبحت “المستودعات الرقمية” غير المرئية العمود الفقري للاقتصاد الرقمي، وجوهر ما يسمى بثورة المعلومات التي تعيد تشكيل أسس القوة والتنمية في العالم.
على هذه الخلفية الثورية، لمع نجم دولة الإمارات العربية المتحدة في مطلع الألفية كإحدى أجرأ التجارب الإقليمية في بناء بنية تحتية رقمية. ففي وقت كانت فيه غالبية بلدان المنطقة لا تزال في بدايات اتصالها بالإنترنت، اتخذت دبي خطوة ريادية غير مسبوقة باتجاه المستقبل الرقمي. وتمثل قصة نشأة أول مركز بيانات عالمي في الإمارات بالشراكة بين مدينة دبي للإنترنت وشركة IBM نقطة تحوّل مفصلية، ليس فقط محلياً بل إقليمياً، إذ رسّخت أسس منصة انطلاق رقمية قادت المنطقة نحو عصر الاقتصاد المعرفي.
قصة أول مركز بيانات في الإمارات: شراكة جريئة بين دبي وIBM
في عام 1999، أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي آن ذاك، رؤية طموحة لتحويل دبي إلى مركز إقليمي لصناعة المستقبل الرقمي. كانت تلك الرؤية تتجسد عملياً في تأسيس مدينة دبي للإنترنت، كمنطقة حرة للتكنولوجيا تهدف إلى استقطاب عمالقة التقنية العالميين وخلق بيئة حاضنة للاقتصاد الرقمي. ضمن هذا التوجه، ووسط واقع تقني إقليمي متواضع للغاية آنذاك، جاءت فكرة إنشاء مركز بيانات عالمي المستوى يكون بمثابة البنية التحتية الأساسية لاستضافة خدمات الإنترنت والأعمال الإلكترونية في المنطقة. ولم يكن غريباً أن يتم اللجوء لشركة IBM أحد عمالقة التقنية في العالم لتكون الشريك في هذا المشروع الريادي.
شهد مطلع الألفية إطلاق مركز e-Hosting في دبي للإنترنت بالشراكة بين دبي وIBM . وحضر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم شخصياً افتتاح هذا المركز الجديد، الذي وُصف بأنه الأول من نوعه في الشرق الأوسط. وقد صُمّم المركز ونُفّذ بإشراف خبراء IBM لخدمة الشركات في الشرق الأوسط بقدرات استضافة متطورة، ما منحها إمكانية نقل أنظمتها التقنية الحرجة إلى بيئة موثوقة وآمنة بدلاً من الاكتفاء بخوادم داخلية محدودة. كانت هذه مبادرة غير مسبوقة إقليمياً في عام 2001. استهدفت دبي من خلالها تحقيق إيرادات تُقدر بنحو 50 مليون دولار خلال ثلاث سنوات فقط، عبر توفير خدمات استضافة الأعمال الإلكترونية للشركات المحلية والإقليمية. ولإدراك سياق هذا الرقم، نشير إلى أنه في مطلع الألفية قُدّر حجم سوق استضافة الأعمال الإلكترونية العالمي بنحو 5 مليارات دولار فقط، ما يعني أن حصة تبلغ 50 مليون دولار كانت طموحاً كبيراً لكنه واقعي في ضوء النمو المتوقع.
لقد عكست هذه الشراكة جرأة القرار الاستراتيجي لدبي. فبينما كانت شركات التقنية في الغرب تشيّد مراكز بيانات ضخمة خلال فورة الـ”دوت كوم” (1997-2000) لتلبية الحاجة إلى اتصال إنترنت سريع وتشغيل متواصل على مدار الساعة، لم يكن في الشرق الأوسط أي بنية مماثلة تقريباً. خطوة دبي كانت سباقة؛ فبدلاً من أن تتأخر المنطقة عقوداً في تبنّي بنية البيانات التحتية، قررت دبي القفز مباشرة إلى طليعة الثورة الرقمية. وسرعان ما أثبتت هذه الخطوة صوابيتها، إذ تحول المركز إلى قاعدة موثوقة استفادت منها شركات عالمية ومحلية لنشر خدماتها عبر الإنترنت في أسواق المنطقة، مع ضمان الحد الأعلى من التوافرية والأمان. ولعل أفضل توصيف لجرأة تلك الرؤية ما قاله الشيخ محمد بن راشد حينها “التفوّق الرقمي مبدأ أرسيناه للخمسين عاماً المقبلة.. ونتطلع لأفكار وإسهامات وطنية وشراكات عالمية تسرّع خطواتنا نحو الريادة”. وهي عبارة جاءت امتداداً لرؤيته بأن السبيل إلى المركز الأول عالمياً يمر عبر تبني أحدث الحلول التقنية وتطبيقاتها بكفاءة عالية.
أهمية الخطوة وريادة منصة “دبي للإنترنت”
لم يكن إطلاق مركز البيانات هذا حدثاً تقنياً منعزلاً، بل شكل حجر زاوية في استراتيجية أشمل جعلت من مدينة دبي للإنترنت منصة انطلاق رقمية غير مسبوقة في المنطقة. فالمركز وفر البنية التحتية اللازمة لشركات التكنولوجيا والإعلام والاتصالات التي بدأت تتوافد على دبي مع بدايات الألفية الجديدة. خلال سنوات قليلة، أصبحت مدينة دبي للإنترنت حاضنة لأكثر من 1600 شركة تقنية، بينها عمالقة مثل مايكروسوفت و أوراكل و IBM نفسها. ومع توفر خدمات استضافة البيانات محلياً، لم تعد الشركات الإقليمية بحاجة للاعتماد فقط على خوادم في أوروبا أو أمريكا لتشغيل مواقعها وخدماتها الإلكترونية بات بإمكانها فعل ذلك من دبي مباشرة وبموثوقية عالمية.
ومن اللافت أن الزخم الذي اكتسبته مدينة دبي للإنترنت في سنواتها الأولى تضاعف بشكل ملحوظ بعد إطلاق “دبي القابضة” في أكتوبر 2004 بوصفها الذراع الاستثمارية الجامعة لمشروعات الإمارة الكبرى. إذ أُعيد تنظيم المدينة تحت محفظة “تيكوم للاستثمارات” التابعة لدبي القابضة، فانتقلت من كونها منطقة حرة مبتكرة إلى ركيزة رسمية ضمن استراتيجية تنويع قطاعات دبي المستقبلية. هذا الدمج وفر لها رأس مال طويل الأجل، وإطار حوكمة مؤسسي، وشبكة دعم تشمل مجمّعات شقيقة في الإعلام والتعليم والتصميم، الأمر الذي مكّنها من التحول إلى بوابة الإنترنت الإقليمية الأولى. وبفضل هذا الاحتضان المؤسسي، أصبحت دبي للإنترنت العنوان الموثوق لعمالقة التقنية في الشرق الأوسط، وأحد أبرز مواقع جذب الاستثمارات الرقمية. وهو ما أدى إلى توسيع دورها من مركز استضافة بيانات إلى منصة لحلول الذكاء الاصطناعي والبحث والتطوير.
هذه النقلة أكسبت دبي أفضلية تنافسية هائلة ورسخت مكانتها كمركز رقمي ريادي في الشرق الأوسط. فخلال 15 عاماً من تأسيسها (1999-2014)، تمكنت مدينة دبي للإنترنت من إضافة ما يقدّر بـ 100 مليار درهم (حوالي 27 مليار دولار) إلى اقتصاد دبي. وبحلول 2024، كانت المنطقة التقنية تسهم وحدها بنحو65% من ناتج الاقتصاد التقني في الإمارة. هذه الأرقام تعكس عائد الاستثمار الاستراتيجي المبكر في البنية التحتية الرقمية، إذ نجحت دبي للإنترنت في استقطاب آلاف الشركات وتوفير أكثر من 125 ألف فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، ما جعلها رافعة أساسية لتنويع الاقتصاد.
على المستوى الإقليمي، وفرت دبي للإنترنت نموذجاً يُحتذى لبقية دول الخليج والمنطقة في كيفية إنشاء بيئة جاذبة لشركات التقنية والاستثمار في اقتصاد المعرفة. فمن خلال بنية تحتية عالمية المستوى بما في ذلك مركز البيانات المشترك مع IBM، استطاعت دبي اجتذاب مواهب رقمية وشركات ناشئة وأفكار ابتكارية من أنحاء العالم العربي وخارجه. وأصبحت فعلياً منصة إطلاق للمشاريع الرقمية الأولى من نوعها عربياً من أوائل منصات التجارة الإلكترونية، إلى أول خدمات الموسيقى الرقمية (أنغامي انطلقت من مجتمع دبي الرقمي)، إلى تجارب حكومية رائدة في التحول الإلكتروني. لقد هيأت تلك الخطوة الأولى “إنشاء مركز البيانات” الأرضية الصلبة لكل ما تلاها من مبادرات.
بكلمات أخرى، لم يكن مركز البيانات مجرد غرف مليئة بالخوادم، بل كان مُمكّناً للتحول الاقتصادي. فهو الذي أتاح للإمارات أن تنتقل مبكراً إلى عصر الخدمات الرقمية، وجعل دبي موقعاً جاذباً لاستثمارات التقنية التي تدفقت بمليارات الدولارات على مدى السنوات اللاحقة. وقد لخص الشيخ محمد بن راشد هذه الحقيقة في إحدى جولاته التقنية بقوله “إن رؤيتنا للمستقبل واضحة، ومتطلبات التميز فيه حُصرت بدقة… والعمل جارٍ على تحقيقها بسواعد أبناء الإمارات وعقولهم وابتكاراتهم”. لقد أصبحت البنية التحتية الرقمية ركيزة التنمية الإماراتية لعقود قادمة انطلقت شرارتها الأولى من ذلك المشروع المشترك الطموح مع IBM.
سباق البنية التحتية بين الغرب والشرق
لفهم ريادة الخطوات الإماراتية، يجدر بنا استعراض الصورة العالمية في فترة إنشاء أول مركز بيانات في دبي ومابعدها, فخلال أواخر التسعينات وبدايات الألفية، كانت الولايات المتحدة وأوروبا الغربية تعيشان طفرة غير مسبوقة في إنشاء مراكز البيانات مدفوعة بازدهار الإنترنت وانفجار فقاعة الـDot-com . احتاجت الشركات الغربية آنذاك إلى اتصال سريع ومستمر بالإنترنت وإلى تشغيل خوادمها دون انقطاع، ما دفع كثيراً منها لبناء منشآت ضخمة تسمى مراكز البيانات الإنترنتية IDCs في تلك الفترة، شهدنا ولادة عمالقة خدمات الاستضافة العالميين مثل Equinix في أواخر التسعينات، التي توسعت ببناء مراكز بيانات كبرى في وادي السيليكون ونيويورك ولندن. كما أن شركات الاتصالات الكبرى استثمرت بكثافة لإنشاء مبانٍ كاملة تعج بالخوادم لبيع خدمات Collocation (إسكان خوادم الشركات في مراكز بيانات مشتركة) وهو نموذج انتشر سريعاً في مراكز المال العالمية كلندن وفرانكفورت وطوكيو. بحلول عام 2000 تقريباً، كان في الولايات المتحدة عدد كبير من هذه المراكز الحديثة، خاصة في شمال ولاية فرجينيا بمنطقة عُرفت باسم “زقاق مراكز البيانات” قرب واشنطن. وقد قادت الولايات المتحدة هذا المضمار بلا منافس، إذ استحوذت ولا تزال على ما يقارب نصف القدرة الاستيعابية لمراكز البيانات في العالم. أما أوروبا، فقد لحقت مبكراً هي الأخرى عبر مراكز رائدة مثل Telehouse Docklands في لندن (أُنشئ 1990) الذي وفر نموذجاً قارياً لخدمات استضافة البيانات التجارية.
وفي آسيا، بدأت دول مثل اليابان وسنغافورة الاستثمار في البنية التحتية للبيانات مع مطلع الألفية لضمان مواكبة الاقتصاد الرقمي. سنغافورة مثلاً أنشأت أولى حدائقها التقنية مثل Singapore One-North التي تضمنت مرافق استضافة متقدمة للشركات العالمية، مستفيدة من موقعها كمحور اتصالات في جنوب شرق آسيا. كذلك الصين والهند بدأتا تدريجياً ببناء مراكز بيانات كبرى خلال العقد الأول من الألفية لاستيعاب نمو مستخدمي الإنترنت الهائل لديهما، وإن تأخرتا قليلاً مقارنة بالغرب.
على هذه الخلفية، تبدو رؤية الإمارات متسارعة الخطى. ففي حين أن دول المنطقة العربية كانت تعتمد بشكل شبه كامل على استضافة مواقعها وبياناتها في خوادم خارجية بالغرب خلال التسعينات، بادرت دبي إلى إنشاء مركز بيانات بمعايير عالمية داخل أرضها في وقت مبكر للغاية (2001-2002). هذا الفارق في التوقيت وفي حجم الاستثمار يُبرز شجاعة الرؤية. فعلى سبيل المثال، عندما كانت دبي تستهدف 50 مليون دولار من عوائد خدمات مركز بياناتها خلال 3 سنوات، كانت الشركات الأميركية مثل Exodus Communications تضخ مئات ملايين الدولارات (وربما بإفراط، ما أدى لاحقاً لإفلاس بعضها) في بناء عشرات المراكز لتلبية الطلب العالمي المتنامي. ورغم هذا التفاوت في الأرقام المطلقة، فإن الرؤية كانت متشابهة، والإدراك بأن المستقبل للاقتصاد الرقمي، وأن من يملك البنية التحتية من كابلات ألياف ضوئية ومراكز بيانات سيحصد الريادة. الفرق أن الإمارات تبنّت هذه الرؤية في محيط جغرافي لم يكن قد أدرك بعد أهمية السباق، فتحولت سريعاً إلى النموذج الإقليمي الملهِم. وبالفعل، ما إن استوعبت الدول المجاورة أهمية مراكز البيانات حتى بدأت السعودية وقطر مثلاً إطلاق مشاريع مماثلة بعد سنوات قليلة، محاولة تقليص الفجوة مع السبّاق الإماراتي.
اليوم، وبعد مرور حوالي عقدين، بات مشهد الاستثمار في مراكز البيانات عالمياً في مرحلة غير مسبوقة تاريخياً. فالتنافس المحموم على إنشاء مراكز أكبر وأسرع وأكثر كفاءة ازداد مع دخول تقنيات جديدة كالذكاء الاصطناعي والحوسبة السحابية. ومن المفارقات أن الشرق الأوسط الذي بدأ متأخراً أصبح حالياً أحد أسرع الأسواق نمواً في هذا القطاع. المنتدى الاقتصادي العالمي أشار مؤخراً إلى أن قيمة صناعة مراكز البيانات عالمياً تقدّر بحوالي 242.7 مليار دولار في 2025، مع توقعات بتضاعفها إلى أكثر من 584 مليار دولار بحلول 2032. هذا يعني أن استثمارات بمئات المليارات تُضخ سنوياً حول العالم لبناء وتشغيل “المصانع الجديدة” للاقتصاد الرقمي. وفي هذا السباق الذهبي العالمي، لم تعد الاقتصادات الناشئة على الهامش، دول مثل الهند والبرازيل وكينيا والإمارات باتت تسابق الزمن لجذب استثمارات مراكز البيانات كونها عصب الاقتصاد المستقبلي. وكما تعرض الدول حوافز لاستقطاب مصانع السيارات أو الإلكترونيات، نجدها اليوم تتسابق على استقطاب مشاريع مراكز البيانات عبر إعفاءات ضريبية وتسريع إجراءات الترخيص وتوفير أراضٍ مخصصة.
من ملايين إلى مئات المليارات: تحوّل السوق وتبعاته
عندما ننظر إلى المشوار منذ أوائل الألفية إلى اليوم، نجد تحولاً هائلاً في حجم الاستثمارات وطبيعتها في سوق مراكز البيانات. فبينما تحدثنا عن انطلاقة قدرها 50 مليون دولار في مشروع دبيIBM عام 2001، نتحدث الآن عن أرقام تتجاوز مئات المليارات على مستوى العالم. هذا لا يعكس التضخم المالي وحسب، بل عمق التحول الاقتصادي والاجتماعي الذي أحدثته التكنولوجيا. فاستثمارات البنى التحتية الرقمية أصبحت جزءاً أساسياً من الإنفاق الرأسمالي للدول والشركات الكبرى، تماماً كما كان بناء الطرق السريعة والسدود والمطارات ركناً أساسياً من اقتصادات القرن العشرين.
من زاوية اقتصادية، يعني ذلك أن قطاع مراكز البيانات والخدمات السحابية بات صناعة قائمة بذاتها، تخلق فرص عمل عالية التخصص وتجذب رؤوس أموال ضخمة. على سبيل المثال، قفز الإنفاق العالمي على تجهيزات مراكز البيانات إلى حوالي 200 مليار دولار سنوياً مطلع العقد 2020، مدفوعاً بطلب لا يهدأ من شركات التكنولوجيا الكبرى (أمازون، غوغل، مايكروسوفت، ميتا…) لتوسيع سعاتها السحابية. وفي منطقة الخليج، رصدت تقارير حديثة أن الإنفاق على خدمات وتقنيات مراكز البيانات بلغ نحو 1.5 مليار درهم في عام 2022 في الإمارات والسعودية مجتمعين، مع نمو سنوي يقارب 30% وهي معدلات نمو فلكية مقارنة بالقطاعات الأخرى. هذا التحول يغيّر شكل أسواق العمل أيضاً؛ فبينما كان مشغلو المرافق التقليدية (كهرباء ومياه) والمقاولون يشكلون نسبة كبيرة من القوة العاملة في الماضي، نجد اليوم تنامياً في طلب المهندسين المختصين بالشبكات والحوسبة السحابية وإدارة مراكز البيانات. المدن التي تحتضن مراكز بيانات ضخمة تستفيد من خلق وظائف نوعية في مجالات الأمن السيبراني وإدارة النظم وتطوير البرمجيات وغيرها.
على الصعيد الاجتماعي، أدى هذا الاستثمار الهائل إلى تغيير أنماط الحياة والخدمات. فتوفر بُنية سحابية قوية يعني ازدهار الخدمات الرقمية المقدمة للمجتمع، التعليم الذكي، الصحة الإلكترونية، المدفوعات الرقمية، الترفيه عبر الإنترنت، وغيرها الكثير. نلمس ذلك بوضوح في الإمارات، فمع انتشار مراكز البيانات المحلية، أصبح بالإمكان تقديم خدمات حكومية رقمية للسكان بسرعة وكفاءة غير مسبوقة، وأضحت تطبيقات مثل الخدمات البنكية عبر الهاتف أو التسوق الإلكتروني أكثر اعتمادية حتى أثناء فترات الذروة، نظراً لوجود البنية التحتية القريبة جغرافياً من المستخدمين. هذا التقارب الرقمي عزز الشمولية، إذ تشير الإحصاءات إلى أن نسبة مستخدمي الإنترنت في الإمارات قفزت من حوالي 24% فقط عام 2000 إلى ما يناهز 98% من السكان اليوم. وترافق ذلك مع تحول جذري في الثقافة الاقتصادية فأصبحت البيانات مورداً استراتيجياً تتنافس عليه المؤسسات.
إن امتلاك القدرات على جمع البيانات وتخزينها ومعالجتها بات يعني امتلاك القوة الاقتصادية والتأثير الاجتماعي. فالشركات الأكثر قيمة في العالم الآن (مثل غوغل وأمازون وعلي بابا) هي في جوهرها شركات بيانات تعتمد على مراكز البيانات الهائلة التي تشغلها لفهم سلوك المستخدمين وتقديم الخدمات لهم لحظة بلحظة. وكذلك على مستوى الدول، صار امتلاك مراكز بيانات على أرض الوطن يشابه امتلاك احتياطيات نقدية أو موارد طبيعية من حيث أهميته الإستراتيجية.
سيادة رقمية وأمن قومي: مراكز البيانات كأصول سيادية
مع تصاعد أهمية البيانات وبُناها التحتية، انتقلت مراكز البيانات من مجرد مشاريع تجارية إلى أصول ذات أبعاد سيادية للدول. فأصبحت الحكومات تنظر إليها كمنشآت يجب حمايتها وتأمينها وإبقاؤها تحت السيطرة الوطنية لضمان سيادة البيانات. إن تخزين بيانات المواطنين داخل حدود الدولة وتأمينها في مراكز محلية يُنظر إليه اليوم كمسألة أمن قومي، لا تقل أهمية عن حماية الحدود أو المرافق الحيوية الأخرى. وكما أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي، باتت مراكز البيانات بنية تحتية حرجة للأمن الوطني إلى جانب كونها عامل تنافسي اقتصادي. العديد من الدول سنت تشريعات تفرض حفظ البيانات الحكومية وحتى بيانات القطاعات الحساسة كالمصارف والاتصالات داخل حدودها في مراكز بيانات معتمدة، لحماية خصوصية الجمهور وضمان عدم خضوع تلك البيانات لقوانين أجنبية. الإمارات كانت سباقة عربياً في هذا المجال أيضاً عبر مبادرات مثل الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني التي تؤكد على إنشاء السحابات الوطنية الآمنة لضمان سيادة البيانات الحكومية.
كما أن مراكز البيانات الكبيرة تغذي القدرات الدفاعية والأمنية الرقمية للدول. فهي تستضيف أنظمة الذكاء الاصطناعي وتحليلات البيانات الضخمة التي باتت تستخدم في مجالات الأمن ومكافحة الجرائم الإلكترونية وحماية البنية التحتية. على سبيل المثال، القدرة على معالجة مليارات السجلات بسرعة في مركز بيانات متقدم تتيح كشف محاولات الاختراق الإلكتروني في الزمن الحقيقي تقريباً، أو تحليل أنماط الاتصالات لرصد تهديدات محتملة. ومن هنا فإن حماية مراكز البيانات نفسها أصبحت أولوية. فهذه المرافق مزودة اليوم بأعلى مستويات الأمن الفيزيائي (حراسة مشددة، وبوابات بيومترية، وكاميرات مراقبة على مدار الساعة) بالإضافة إلى أنظمة الأمن السيبراني المتطورة. وقد سمعنا في السنوات الأخيرة عن تمارين مشتركة تجريها دول لضمان جاهزية مراكز بياناتها ضد الهجمات السيبرانية أو حتى مخاطر انقطاع التيار على نطاق واسع.
إضافة إلى البعد الأمني، يُنظر لمراكز البيانات كعامل تمكين للتحول الرقمي الحكومي وتعزيز الكفاءة الاقتصادية. فعندما تمتلك الدولة مركز بيانات وطني ضخم، يصبح بإمكانها دمج مختلف قواعد البيانات الحكومية (السجل السكاني، الصحي، التعليمي، المروري… إلخ) ضمن سحابة مركزية، ما يسهل تبادل المعلومات بين الجهات وتحسين الخدمات العامة. في دبي مثلاً أسهمت البنية التحتية الرقمية في تحقيق رؤية الحكومة اللاورقية والخدمات الذكية المتكاملة التي قلصت زمن إنجاز المعاملات من أيام إلى دقائق. وعلى الصعيد الاقتصادي، وجود هذه المراكز محلياً يجذب الشركات العالمية التي تتطلب استضافة بيانات قريبة من عملائها في المنطقة. هذا يخلق بدوره سوقاً محلية لخدمات مراكز البيانات ويحفز الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وقد شهدنا بالفعل شركات تقنية عالمية كبرى تعلن عن افتتاح مراكز بيانات سحابية في الإمارات مثل أمازون Web Services ومايكروسوفت وAzure لتخدم المنطقة، مستفيدة من البيئة الاستثمارية المتقدمة والبنية التحتية الموجودة.
ولا يغيب عن البال جانب الشفافية والتنافسية؛ إذ أن سياسات البيانات المفتوحة التي تتبناها الإمارات ودول أخرى تتطلب وجود منصات وطنية موثوقة لإتاحة البيانات الحكومية غير السرية للابتكار وريادة الأعمال. وقد أكد معالي محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء، في أكثر من مناسبة أن “تبني حكومة الإمارات لسياسة البيانات المفتوحة يهدف لدعم وتسريع التحول الرقمي لما له من أثر في رفع كفاءة استخدام الموارد وتعزيز الشفافية”. وتتحقق هذه الرؤية عملياً عبر البنى التحتية الوطنية كمنصات البيانات الضخمة المقامة في مراكز بيانات محلية مؤمنة.
باختصار، تحولت مراكز البيانات من كونها مجرد أصل تجاري إلى أصل استراتيجي متعدد الأبعاد. فهي لبِنة أساسية في اقتصادات المعرفة، وضامن للسيادة الرقمية والأمن الوطني، وممكِّن للتحول الحكومي والتنموي. وفي الوقت نفسه، لا يخلو توسعها من تحديات مستقبلية أبرزها التحدي البيئي المتعلق باستهلاك الطاقة والمياه. فالمراكز الضخمة تستهلك كميات هائلة من الكهرباء للتشغيل والتبريد، وقد قدرت وكالة الطاقة الدولية أن مراكز البيانات تستهلك ما بين 1 إلى 1.5% من إجمالي الكهرباء عالمياً. لذا فإن استدامتها أصبحت محل اهتمام حكومي، والإمارات ملتزمة بخطط لضمان تشغيل تلك المرافق بطاقة نظيفة قدر الإمكان.
رؤية تصنع المستقبل
من “غرفة الخادم” الصغيرة في شركات التسعينات، إلى مدن الخوادم العملاقة التي تشيّد اليوم في قلب المدن الإماراتية، قطعت المنطقة شوطاً مذهلاً في رحلة التحول الرقمي. لقد بدأت القصة بقرار جريء اتخذته قيادة آمنت بأن المستقبل يمكن تصميمه وصنعه. يوم وقف الشيخ محمد بن راشد مع مسؤولي IBM عام 2001 في غرفة مليئة بالخوادم، كانوا لا يدشنون مبنى تقنياً فحسب، بل يؤسسون لمستقبل جديد تتصدر فيه دولة عربية مشهد الثورة الرقمية. وفي غضون عقدين، أصبحت الإمارات محطة رئيسية في خريطة مراكز البيانات العالمية، تنافس العواصم التقنية التقليدية بالأرقام والقدرات.
ومع ذلك، لا تتمثل قيمة هذه الرحلة في الأرقام القياسية وحدها، بل في الرؤية الكامنة وراءها، رؤية تعتبر التكنولوجيا أداة لتمكين الإنسان والمجتمع، وترى في البيانات ثروة يجب استثمارها لمصلحة التنمية. وكما قال سمو الشيخ حمدان بن محمد آل مكتوم ولي عهد دبي، مؤخراً، “إن دبي برؤية محمد بن راشد ترسخ ريادتها مركزاً عالمياً للابتكار الرقمي”. هذه الريادة الرقمية ليست امتيازاً تقنياً فقط، بل هي مسؤولية حضارية لتسخير ثورة المعلومات من أجل مستقبل أفضل.
وفي خضم تسارع التحولات، تُذكرنا كلمات معالي محمد القرقاوي بأننا “انتقلنا إلى الثانية الثانية من الدقيقة الأولى من الساعة الأولى من اليوم الأول للتطور التكنولوجي” في إشارة إلى أن مشوار الثورة الرقمية لا يزال في بداياته رغم كل ما تحقق. وإذا كان من درس مستفاد من قصة الإمارات مع مراكز البيانات، فهو أن الجرأة في استشراف المستقبل والإقدام على الاستثمار الاستراتيجي في الوقت المناسب كفيلان بنقل الأمم من مقاعد المتفرجين إلى منصات الريادة. الإمارات فعلت ذلك حين استثمرت في مركز بيانات متواضع بمقاييس اليوم. وها هي اليوم تجني ثمار هذه الجرأة بريادة إقليمية وعالمية، مؤكدة أن من يملك البيانات يملك المستقبل قولاً وفعلاً.
وفي المحصلة يشبه تاريخ مراكز البيانات في دولة الإمارات رواية فصولها متلاحقة عن سباق مع الزمن، من غرفة خادم وحيدة إلى حوسبة سحابية شاملة، ومن حلم صغير في واحة إلى حقيقة تتجسد في واحدة من أضخم مشروعات الذكاء الاصطناعي في العالم. إنها قصة بلد آمن بأن ثورة المعلومات هي قدر البشرية الجديد، فاختار أن يكون في قلب هذه الثورة، لا على هامشها. وما البداية إلا ومضة؛ والقادم، كما تعدنا المؤشرات، سيكون أكثر إدهاشاً وحافلاً بفصول جديدة من السبق والريادة الرقمية حيث أن السبّاقون إلى المستقبل هم صُنّاعه.