
لم تكن المجتمعات في أي مرحلة من تاريخها بمنأى عن الحاجة إلى تنظيم المعرفة وتوجيهها نحو أهداف تنموية. ففي البدايات، ارتبطت مراكز المعرفة بمهمة جمع العلوم ونشرها، كما هو الحال في مكتبة الإسكندرية وبيت الحكمة في بغداد، حيث كانت الغاية حفظ الإرث المعرفي وترجمته ونقله بين الحضارات. ومع تطور الدولة الحديثة، توسّع الدور ليشمل دعم البحث العلمي وتوفير بنى تحتية تمكّن من إنتاج المعرفة، فظهرت الجامعات البحثية، والمراكز المتخصصة، والمجالس الوطنية للعلوم، في ظل أنظمة تشجع النشر الأكاديمي وتدعم التخصصات الدقيقة.
لكن التحوّل الأعمق جاء مع الانتقال إلى اقتصاد المعرفة، حيث لم يعد البحث هدفًا بحد ذاته، بل أداة استراتيجية لإنتاج القيمة الاقتصادية، وتحقيق التفوق التنافسي، وتحفيز الابتكار. في هذا السياق، نشأت مجمعات العلوم بوصفها كيانات متكاملة تجمع بين التعليم، والبحث، والتصنيع، والتمويل، والتشريعات، في بيئة واحدة تُسرّع تحويل الأفكار إلى منتجات، والمعرفة إلى أعمال.
ومن وادي السيليكون في الولايات المتحدة، إلى تسوكوبا في اليابان، وصولًا إلى مجمع دبي للعلوم، أثبت هذا النموذج أنه لم يعد حكرًا على الاقتصادات المتقدمة، بل بات ضرورة لكل دولة تطمح إلى ترسيخ اقتصادها على أسس مستدامة ومعرفية.
البدايات..
لم يكن اختيار عام 2005 لإنشاء مجمع دبي للعلوم في دبي ليكون أول منطقة حرة للعلوم في الشرق الأوسط محض صدفة، فقد تزامن مع انطلاقة مجموعة من المناطق الحرة المتخصصة تحت مظلة دبي القابضة، لتديرها مجموعة تيكوم التابعة للشركة القابضة، إلى جانب مدن قطاعية أخرى كمدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام وقرية المعرفة وغيرها. جاء مجمع دبي للعلوم ليكمل هذه المنظومة كمحور مخصص للعلوم والأبحاث. حمل المجمع عند افتتاحه آنذاك اسم “منتزه دبي للتكنولوجيا الحيوية والأبحاث” (DuBiotech) إذ ركز بدايةً على استقطاب شركات الصناعات الدوائية والتقنيات الحيوية، مستلهماً نموذج وادي السيليكون ولكن في مجال البيوتكنولوجي. وقد صُممت مرافقه وفق أعلى المعايير التقنية لاحتضان المختبرات ومراكز الأبحاث؛ فنجد مثلاً أن الأبراج الحيوية المزدوجة التي بُنيت كمقر رئيسي تضمنت أنظمة تهوية وترشيح هوائي متقدمة لمنع التلوث المتبادل، مع تجهيزات أمان بيولوجي وتصريف نفايات آمن لضمان بيئة بحثية ذات موثوقية عالية. هذه البنية التحتية المتخصصة أكدت جدية المشروع في توفير كل ما يلزم للعلماء والباحثين.
مسار النمو والتطورات
بدأ المجمع رحلته باستقطاب عدد من الشركات العالمية في سنواته الأولى، مما عكس الثقة المبكرة التي حظي بها المشروع. بحلول عام 2012 كانت أكثر من 120 شركة قد اتخذت من دبي للعلوم مقراً لها، بينها أسماء عملاقة مثل فايزر (Pfizer) وبريستول مايرز سكويب وفيرمينيش (Firmenich) وأوليمبوس وغيرها. هذا الزخم الأولي أكد مكانة المجمع كوجهة جاذبة للصناعات الدوائية والتقنية الحيوية الساعية لدخول أسواق الشرق الأوسط وجوارها. ومع مرور الوقت توسع نطاق القطاعات التي يخدمها المجمع ليتجاوز التقنيات الحيوية إلى مجالات أوسع ضمن العلوم والابتكار، فتمت إعادة تسمية المشروع إلى “مجمع دبي للعلوم” في عام 2015 لتعكس واقع التنوع العلمي الذي بات يحتضنه. وتحت هذا الاسم والشعار الجديدين، أصبح المجمع موطناً ليس فقط لشركات الطب والصحة، بل أيضاً لمؤسسات ناشطة في علوم الحياة عموماً، وفي قطاعات الطاقة المستدامة والبيئة، مما يلبي أولويات مستقبلية كبرى لدبي والإمارات في مجالات كالاستدامة والتكنولوجيا النظيفة.
شهدت الأعوام اللاحقة نمواً متسارعاً في حجم المجمع العلمي ونشاطه. فعلى صعيد البنية التحتية، أُطلِقت مشاريع توسعة طموحة لمواكبة تزايد الطلب من الشركات. ففي عام 2024 على سبيل المثال، أعلن المجمع عن إضافة 200 ألف قدم مربع من مساحات التخزين والخدمات اللوجستية “زيادة تعادل 147% من طاقته السابقة” بهدف تلبية احتياجات القاعدة المتنامية من العملاء. هذا التوسع اللوجستي لم يكن مجرد تطوير عقاري، بل استجابة لتغير نوعي في طبيعة الأنشطة، فالمزيد من الشركات باتت تتطلب مرافق لتوزيع المنتجات وإدارة سلاسل الإمداد ضمن المجمع، ما يدل على انتقاله من مجرد موقع بحثي إلى منصة متكاملة للتصنيع والخدمات العلمية. وجاء الإعلان عن تلك التوسعة على هامش مشاركة دبي للعلوم في معرض دولي للتكنولوجيا الحيوية في الولايات المتحدة، في إشارة إلى أن المجمع لم يعد مشروعاً محلياً وحسب بل نافذة تواصل عالمي لجذب الاستثمارات العلمية إلى دبي.
إلى جانب البنية التحتية، نما المجتمع العلمي داخل المجمع كماً ونوعاً. فبعد أن كان عدد الخبراء والعاملين فيه يُعد بالمئات في بداياته، تضاعف الرقم عدة مرات ليصل اليوم إلى ما يناهز 6500 متخصص يعملون ضمن أكثر من 500 شركة ومؤسسة. هذا التحول الكمي رافقه تغير نوعي في طبيعة الكوادر، فالمجمع يجتذب نخبة العقول من مختلف أنحاء العالم في مجالات متنوعة تشمل البحث الطبي والبيئي والطاقة المتجددة، إلى جانب الكفاءات الإماراتية الشابة التي تجد هناك بيئة مواتية للإبداع العلمي. وبفضل هذا التنوع، أصبح المجمع بوتقة تلتقي فيها خبرات عالمية مختلفة، ما يعزز ثقافة التعاون وتبادل المعرفة ضمن نظام بيئي ابتكاري فريد في المنطقة.
بيئة الابتكار ودور المجمع في الاقتصاد المعرفي
صُمم مجمع دبي للعلوم ليكون أكثر من مجرد منطقة أعمال، فهو منظومة متكاملة تشبه مدينة علمية صغيرة داخل دبي. يوفر المجمع مساحات مكتبية ومعامل متخصصة وحاضنات أعمال، بل وحتى مناطق سكنية وخدمات حياتية لدعم مجتمع الباحثين والمحترفين المقيمين فيه. وهذه المقاربة الشمولية تعني أن العالم أو المهندس في مجمع العلوم يستطيع أن يجد كل ما يحتاجه ضمن حيز مكاني واحد، من المعدات المخبرية عالية المستوى إلى الخدمات اليومية، مما يخلق بيئة تساعد على التركيز وتحفز على الإنتاجية والتفرغ للابتكار. وقد أكد القائمون على المشروع مراراً أن تهيئة المناخ المناسب هي مفتاح الإبداع، ومن هذا المنطلق، سعى المجمع إلى استقطاب ألمع المواهب العلمية وتوفير الدعم لهم عبر حزم حوافز جاذبة تشمل تملكاً كاملاً للشركات بنسبة 100% وإعفاءات ضريبية شاملة وتسهيلات في تحويل الأرباح. هذه الامتيازات المألوفة في بيئة المناطق الحرة الإماراتية، تهدف إلى إزالة العقبات البيروقراطية والمالية من طريق الباحث ورائد الأعمال العلمي، بحيث يتفرغ لتحقيق القيمة المضافة في مشاريعه البحثية والتطويرية.
على الصعيد الاقتصادي الأوسع، يأتي دور مجمع دبي للعلوم محورياً في دعم رؤية دبي للتحول إلى اقتصاد مبتكر ومستدام. فالمجمع اليوم يعتبر منصة لتطوير صناعات جديدة في الدولة، مثل الصناعات الدوائية المتقدمة والتكنولوجيا الحيوية والطاقة النظيفة، مما يسهم في تنويع القاعدة الاقتصادية وخلق فرص عمل نوعية. ولعل الأرقام تعكس هذا الأثر بوضوح: يضم المجمع مئات الشركات من شتى أنحاء العالم، بدءاً من شركات ناشئة محلية وصولاً إلى فروع إقليمية لعمالقة عالميين، ما جعله مساهماً في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وفي الوقت نفسه حضانة للشركات الصغيرة والمتوسطة المحلية. وقد أصبحت أسماء مثل مدترونيك (Medtronic) وميتلر توليدو (Mettler Toledo) وفيرست سولار (First Solar) ضمن قائمة شركات المجمع، في إشارة إلى توسع نطاق الابتكار فيه ليشمل التقنيات الطبية الدقيقة وحتى حلول الطاقة الشمسية. هذه البيئة المتنوعة تعني أن دبي لا تراهن على قطاع واحد بل تبني اقتصاد معرفة متكامل يمتد عبر قطاعات حيوية متعددة.
ومن منظور اجتماعي وفلسفي، يطرح نجاح مجمع دبي للعلوم تساؤلات عميقة حول العلاقة بين البنية التحتية المادية والمعرفة الإنسانية. فقد استطاعت دبي عبر هذا المشروع أن ترسم ملامح مجتمع جديد قوامه الباحثون والعلماء، في منطقة لم يكن البحث العلمي جزءاً أصيلاً من نشاطها قبل عقود قليلة. إن تجمع 6500 خبير ضمن مساحة جغرافية محدودة يولّد تأثيراً ثقافياً ومعرفياً تتجاوز آثاره حدود المختبرات، فهؤلاء الأفراد يشكلون نواة مجتمع علمي يثري البيئة المحيطة بأفكاره ورؤاه. وفي بلد يتطلع لتوطين العلم وبناء قدرات أجياله الصاعدة، يمثل المجمع مدرسة عملية يتعلم من خلالها الشباب الإماراتي قيم الدقة والمنهجية والفضول العلمي. كما أن انخراط مؤسسات المجمع في مبادرات مجتمعية وتعليمية “كالتدريب والتعاون مع الجامعات المحلية” يضمن أن عجلة الابتكار لا تدور في معزل عن المجتمع، بل تؤتي ثمارها لتحسين حياة الناس وتعزيز نوعية الحياة في الإمارات. وليس أدل على ذلك من تركيز القيادة على ربط البحث العلمي بأهداف التنمية، إذ يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، أن قطاع البحث والتطوير ركيزة أساسية من ركائز التنمية المستدامة والاقتصاد الإبداعي، ورافعة مهمة للارتقاء بأداء مختلف القطاعات وتشكيل ملامح المستقبل.
المقارنة الإقليمية والمكانة العالمية
على الرغم من ريادة مجمع دبي للعلوم إقليمياً، فإن دبي ليست وحدها في هذا المضمار. فمع انتشار مفهوم اقتصاد المعرفة في المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين، برزت مشاريع مماثلة، قطر مثلاً افتتحت متنزه قطر للعلوم والتكنولوجيا عام 2009 كجزء من رؤية الدوحة للتحول العلمي، كما أن السعودية استثمرت في مدن تقنية ومراكز أبحاث مثل مدينة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST) التي افتتحت في نفس العام. هذه المبادرات وإن تشابهت في الأهداف، اتخذت نماذج مختلفة، فقطر ربطت حديقتها العلمية بمؤسسة تعليمية (مؤسسة قطر) ووفرت تمويلاً سخياً للأبحاث، فيما ركزت السعودية على بناء جامعة بحثية عالمية الطراز. أما نموذج دبي فتميّز بأنه منطلق من منظور تجاري تنموي عبر المنطقة الحرة، أي أنه يوازن بين استقطاب شركات عالمية تسعى للربح، وتشجيع أبحاث محلية ذات جدوى اقتصادية. هذه الصبغة المختلطة بين الأكاديمي والتطبيقي منحت مجمع دبي للعلوم ميزة تنافسية، حيث أصبح بإمكان المستثمر أن يجد سوقاً ومختبراً في مكان واحد، وبإمكان الباحث أن يجد تمويلاً وفرصاً لتسويق ابتكاره دون الابتعاد عن محيطه العلمي. ولعل هذا ما جعل دبي تتفوق في استدامة مشروعها العلمي مقارنة ببعض التجارب الأخرى التي تعثرت بمجرد انحسار الدعم الحكومي المباشر. فالمجمع اليوم مكتفٍ ذاتياً إلى حد كبير، تدعمه عوائد الشركات المستأجرة واستثمارات القطاع الخاص، ضمن إطار سياسات حكومية داعمة ولكن غير متدخلة في التفاصيل اليومية.
على الصعيد العالمي، رسّخ المجمع موقعه كبوابة إقليمية للأبحاث والتطوير. كثيراً ما يُشار إلى دبي اليوم بوصفها وجهة مفضلة لانعقاد المؤتمرات والمعارض العلمية والتقنية الدولية في الشرق الأوسط، وهو دور ساهم فيه وجود بنية تحتية كمجمع العلوم. فالمؤسسات البحثية والشركات التقنية تجد في دبي منصة للتواصل مع أسواق آسيا وإفريقيا انطلاقاً من بيئة عمل عالمية المعايير. وقد أتاح المجمع لدبي جذب فعاليات مرموقة مثل مؤتمر التكنولوجيا الحيوية العالمي ومعرض العلوم المتقدمة، مما يعزز الثقة الدولية بإمكانات دولة الإمارات في ميدان الابتكار. وقد وصف معالي محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء، هذا البُعد بقوله: “إن دبي نجحت في تطوير بيئة حاضنة للابتكار ومحفزة لاقتصاد المستقبل، وأصبحت وجهة مفضلة للشركات والفعاليات الدولية المتخصصة في التكنولوجيا الحديثة وتصميم المستقبل”. إن وجود مجمع دبي للعلوم كمنظومة حية هو تجسيد عملي لهذه البيئة الحاضنة، ودليل على أن الاستثمار طويل الأمد في العلم والمعرفة يمكن أن يؤتي ثماره في صيغة تطور اقتصادي ملموس ومكانة عالمية مرموقة.
واقعية المستقبل
يبرز مجمع دبي للعلوم كتجربة فريدة تجمع بين الفكر الفلسفي والتطبيق العملي. فهو نتاج رؤية تؤمن بأن التقدم العلمي هو مشروع اجتماعي اقتصادي متكامل، تتضافر فيه جهود الحكومة والقطاع الخاص والعقول الواعدة. وكأي مشروع طموح، واجه المجمع تحدياته خلال مسيرته: من إقناع الشركات العالمية بالقدوم إلى منطقة غير معروفة بالبحث العلمي، إلى تطوير القدرات البشرية المحلية لمجاراة التقدم التقني. لكن دبي تعاملت مع هذه التحديات بنفس منهجيتها المعهودة: خطة واضحة، واستثمار متواصل، وانفتاح على العالم. فكانت النتيجة أن رسخت أقدامها في ميدان كان يُعتبر بعيداً عنها. لقد تحول المشهد خلال عقدين من الزمن من صحراء هادئة في جنوب البرشا إلى مدينة علمية تنبض بالحياة، مبانٍ حديثة تحتضن مختبرات متقدمة، وعقول من شتى الجنسيات تتعاون وتبتكر، وابتسامات رضا ترتسم على وجوه روّاد أعمال نجحوا في تحويل أفكارهم إلى منتجات.
لم يعد مجمع دبي للعلوم مجرد مجمع بالمعنى العمراني، بل أصبح فكرة ملهمة بأن الاستثمار في الإنسان ومعرفته هو الاستثمار الأجدى للمستقبل. وبرغم أن الحكم على المآلات النهائية لأي مشروع معرفي يحتاج إلى عقود طويلة، فإن الدلائل الحالية تشير إلى أن الرهان كان في محله. دبي اليوم تمتلك منظومة علمية واقتصادية تتطور باستمرار، وتتطلع إلى مراحل أكثر تقدماً ضمن أجندة طموحة مثل أجندة دبي الاقتصادية D33 وبرنامج دبي للبحث والتطوير ورؤية “نحن الإمارات 2031”. وفي هذه الرؤية، يظل مجمع دبي للعلوم حجر زاوية في بناء مستقبل يتشارك فيه الفكر الاقتصادي مع النظرية الاجتماعية والفلسفية لصنع تنمية مستدامة قائمة على المعرفة.