السبت, 04 أكتوبر, 2025


مدينة دبي للأقمشة نموذج الذكاء اللوجستي
en
تقرير حصري 29 سبتمبر 2025
مدينة دبي للأقمشة

شكّلت صناعة الأقمشة أحد أعمدة الاقتصاد والثقافة في الشرق الأوسط منذ آلاف السنين. فقد نظم السومريون والآشوريون ورشَ حياكة جماعية في المعابد والقصور لإنتاج الصوف والكتان، مع اعتماد مبكر على الصباغة بالألوان النباتية والمعدنية. وفي الساحل الفينيقي، ابتكر الحرفيون صبغة الأرجوان المستخرجة من أصداف الـ murex  “المحار الأرجواني”، وحولوها إلى سلعة فاخرة تُصدَّر إلى موانئ المتوسط، حتى صارت رمزاً للسلطة لدى نخبة روما وأثينا. وخلال العصر العباسي، غدت بغداد ودمشق مراكز لنسج الحرير الموشى بالذهب، وتُصدِّر أقمشتها الرفيعة عبر طرق الحرير إلى الأندلس وآسيا الوسطى، مجسدةً التزاوج بين التقنية والحرفية. أما أسواق دومة الجندل وعكاظ في الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكانت منصات سنوية يلتقي فيها التجار لتبادل الأقمشة والسلع الثمينة تحت حماية العرف القبلي. واليوم ما زال قطاع النسيج عالمياً يوظف عشرات الملايين، ويُقدَّر حجمه بنحو 1.5 تريليون دولار، ما يؤكد استمراره كركيزة اقتصادية وثقافية بالغة التأثير.

مدينة دبي للأقمشة

تأسيس مدينة دبي للأقمشة تحت إشراف جمارك دبي

في عام 2000 وقّعت مؤسسة الموانئ والجمارك والمناطق الحرة وجمعية تجار الأقمشة (TEXMAS) اتفاقية منحت بموجبها TEXMAS قطعة أرض في ورسان جنوب مساحتها نحو 6 ملايين قدم مربع لتشييد منطقة حرة متخصصة للأقمشة تُعرف اليوم بمدينة دبي للأقمشة. وجدير بالذكر أن إطلاق هذا المشروع تزامن مع بزوغ سلسلة “مدن دبي” المتخصصة التي دشنها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي آن ذاك، لتعزيز اقتصاد المعرفة؛ مثل مدينة دبي للإنترنت التي أُعلن عنها في 29 أكتوبر 1999، ومدينة دبي للإعلام التي أُطلقت رسمياً في 4 نوفمبر 2000. وقد تولى الإشراف التنفيذي على تلك المدن معالي محمد عبدالله القرقاوي، الذي كان يشغل آنذاك منصب المدير العام لسلطة المنطقة الحرة للتكنولوجيا والتجارة الإلكترونية والإعلام ورئيس مجلس إدارة مدينة دبي للإنترنت.

وفي سبتمبر 2001 أعلن مسؤولو TEXMAS بدء الأعمال الإنشائية، مع التخطيط لبناء صالات عرض ومستودعات داخل الموقع. وافتُتحت المدينة رسمياً في يناير 2006 بعد إنجاز المرحلة الأولى وبتكلفة تطوير بلغت نحو 250 مليون درهم جُمِعت من مساهمات أعضاء  TEXMAS، لتصبح مجمّعاً مخصصاً لتخزين وعرض وإعادة تصدير المنسوجات. كما تُدار المنطقة تحت إشراف جافزا ضمن نظام المناطق الحرة، وتتمتع الشركات العاملة فيها بإعفاء كامل من الرسوم الجمركية، مع توفير مكتب لجمارك دبي داخل الموقع لتخليص الشحنات مباشرةً.

البنية التحتية وموقع المدينة الاستراتيجي

تقع مدينة دبي للأقمشة في ورسان قرب المدينة العالمية/دراجون مارت وعلى مقربة من تقاطع شارع رأس الخور (E44) وشارع الشيخ محمد بن زايد  (E311)، ما يسهّل الوصول إلى مطار دبي الدولي والموانئ الرئيسية. كما تبلغ مساحة الموقع نحو6  ملايين قدم مربع مع 2.2  مليون قدم مربع مساحات مبنية مخصّصة للمستودعات وصالات العرض والمكاتب، وهي أرقام وثّقتها تقارير افتتاح المشروع. كما يوفر المجمع نحو295  وحدة (نطاق التشغيل حسب أرقام الإحصاءات وقت الافتتاح بين 280-295 وحدة) بثلاث فئات مساحات تقارب 230/460/920  متر مربع لكل وحدة، ما يعادل تقريباً2,500/5,000/10,000 قدم مربع، لتلبية احتياجات التجار من الأحجام المختلفة. وعند الطرح الأول، حاز المستثمرون إعفاءً إيجارياً لمدة 15 عاماً، ثم إيجاراً أدنى بنحو 50%  من أسعار السوق للخمسة عشر عاماً التالية.
لوجستياً، تستفيد المدينة من قربها من جبل علي وشبكات الطرق السريعة، ومن اتصال عملي بدراجون مارت ومحطات الحافلات القريبة، وهو ما يختزل زمن الحركة بين المخازن ومنافذ الشحن ويخفض التكاليف.

الأداء الاقتصادي واللوجستي حتى عام 2025

منذ دخولها حيز التشغيل منتصف العقد الأول من الألفية، حققت مدينة دبي للأقمشة أثراً اقتصادياً ملموساً تجلى في تنشيط حركة تجارة الأقمشة في الإمارة. وقد قدرت تكسماس قيمة التجارة النسيجية في دبي عند افتتاح المدينة بحوالي 8.8  مليار درهم (نحو 2.4 مليار دولار) سنوياً، ما جعل قطاع النسيج ثاني أكبر مساهم في تجارة دبي آنذاك بعد قطاع المحروقات. هذا الحجم ازداد باطراد خلال السنوات اللاحقة مدفوعاً بازدياد عمليات إعادة التصدير واتساع قاعدة الشركاء التجاريين. ففي عام 2010 مثلاً، قدّر إجمالي حجم تجارة المنسوجات في دولة الإمارات بنحو 12 مليار درهم. واستمرت المعدلات بالنمو، حيث تشير أحدث البيانات المتاحة إلى أن قيمة سوق الأقمشة والملابس في الإمارات تُقدر بأكثر من 10  مليارات دولار (قرابة 36.7 مليار درهم) في أوائل العقد الحالي. وتؤكد التقارير أن الإمارات صدّرت ما قيمته 3.5  مليار دولار من المنسوجات في عام 2023، مما يجعلها في مصاف أكبر 40 دولة مصدّرة للأقمشة عالمياً. هذه الأرقام تبرهن على نجاح نموذج دبي، فبفضل منصات حرة مثل مدينة الأقمشة، تمكنت الدولة من تعزيز إعادة التصدير إلى عشرات الأسواق في آسيا وإفريقيا وأوروبا.

على صعيد الأداء اللوجستي، أتاحت البنية المتطورة للمدينة وتقنيات الإدارة الحديثة اختصار الوقت والتكلفة في سلسلة التوريد. فوجود مكتب لجمارك دبي داخل المدينة يعني إنجاز معاملات التخليص الجمركي في موقع التخزين نفسه، مع إعفاءات كاملة من الرسوم على البضائع المعاد تصديرها. وقد حرصت الجهات المشغّلة على تحديث الأنظمة باستمرار لمواكبة أفضل الممارسات، فاليوم تستخدم كثير من مستودعات المدينة تقنيات تعقّب رقمي (RFID) وأنظمة إدارة مخزون حديثة لزيادة الدقة وتسريع عمليات الجرد. كما ترتبط البوابات الجمركية في المدينة بنظام إلكتروني متطور يسمى “سجل القماش”، وهو قاعدة بيانات مشتركة بين تكسماس وجمارك دبي تتابع حركة كل شحنة قماش منذ لحظة وصولها الميناء أو المطار وحتى خروجها من المدينة. وقد تم دمج هذا النظام بمنصة بلوك تشين أطلقتها جمارك دبي حديثاً لتحقيق مستويات غير مسبوقة من الشفافية والسرعة في التخليص، حيث يُنجز التصريح الجمركي الآن في غضون دقائق معدودة بدلاً من أيام كما في الماضي. هذه الكفاءة اللوجستية منحت دبي أفضلية تنافسية وجعلت مدينة الأقمشة خياراً مفضلاً للتجا الباحثين عن مركز يضمن وصول منتجاتهم بسرعة إلى أسواق متعددة. وبالفعل، تتمتع دبي اليوم بوضع محور إقليمي لإعادة تصدير الأقمشة، تخدم عبره أكثر من 50 بلداً، مستفيدةً من موقعها الجغرافي والبنية التحتية عالمية المستوى في الموانئ والمطارات.

وإلى جانب الأرقام الإجمالية، يظهر نجاح مدينة دبي للأقمشة في مؤشرات الأداء القطاعي. فخلال فترة وجيزة من تأسيسها، استقطبت المدينة عدداً من كبار التجار العالميين الذين أنشأوا مراكز توزيع إقليمية في دبي. كما أن جميع الوحدات التخزينية البالغ عددها حوالى 280 قد تم إشغالها بالكامل منذ السنوات الأولى، بل إن المرحلة الأولى التي ضمت 150 مستودعاً تم حجزها كاملة في غضون أسابيع من طرحها عام 2004. وبعد توسعة المرحلة الثانية وإضافة 130 وحدة إضافية، اكتملت عمليات التأجير وبيعت كافة الوحدات قبل افتتاح المدينة رسمياً. هذا الإقبال المكثف لم يأتِ فقط من التجار المحليين، وإنما أيضاً من شركات نسيج في دول مجاورة مثل الهند وإيران وسوريا وغيرها، رأت في دبي منصة ملائمة للوصول إلى عملاء جدد. وبفضل السياسات المرنة التي تسمح بتأجير الوحدات أو حتى إعادة تأجيرها من الباطن، توفرت حلول متنوعة للشركات بمختلف أحجامها.

وبفضل هذه الحوافز مجتمعة، أصبحت دبي اليوم محوراً إقليمياً لإعادة تصدير الأقمشة يخدم أكثر من 50 بلداً، مستفيدةً من موقعها الجغرافي والبنية التحتية عالمية المستوى في الموانئ والمطارات. وعلى مستوى تدفقات التجارة الدولية، تُظهر بيانات Kohan Textile Journal (أغسطس 2024) أن أبرز وجهات إعادة التصدير من الإمارات هي السعودية وإيران وعُمان والبحرين، فيما تتصدر الصين والهند وبنغلاديش وتركيا وإيطاليا قائمة أهم الدول التي تستورد منها الإمارات خامات الأقمشة والمنسوجات.

كذلك تفيد إحصاءات “موانئ دبي العالمية” المنشورة في نوفمبر 2019 بأن أربع مناطق لوجستية وصناعية ومن بينها مدينة دبي للأقمشة أسهمت مجتمعةً بنحو ربع إجمالي الناتج المحلي لإمارة دبي في عام 2018، الأمر الذي يرسخ مكانة المدينة ركناً أساسياً في منظومة القيمة المضافة للإمارة.

البعد الثقافي والاجتماعي للمشروع

لم يقتصر تأثير مدينة دبي للأقمشة على الأرقام التجارية فحسب، بل تعداه إلى أبعاد اجتماعية وثقافية مهمة. تاريخياً، شكّلت تجارة الأقمشة جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي في دبي،  فأسواق الأقمشة التقليدية في بر دبي ونايف لطالما كانت ملتقى لتجار من جنسيات وثقافات متعددة، يتبادلون السلع والقصص والخبرات. هذا الإرث الثقافي استمر وتعزز مع تطوير مدينة الأقمشة، حيث انتقلت عشرات الشركات العائلية الصغيرة والحرفيين المتخصصين في النسيج إلى مرافق حديثة دون أن يفقدوا روح الحرفة أو طابعها التقليدي. وفي المدينة الجديدة تجد تجاراً هنوداً يجاورون تجاراً عرباً وإيرانيين وصينيين تحت سقف واحد، وكلٌ يساهم بخبرته وبضائعه القادمة من مختلف بقاع الأرض. وبذلك أصبحت دبي نقطة تلاقٍ حقيقية لكنوز الشرق والغرب من أفخر أنواع الأقمشة، حيث تتوفر أقمشة الحرير الهندي جنباً إلى جنب مع الدانتيل الأوروبي والقماش الإفريقي المطرز. هذا التنوع الثقافي في المنتجات والبائعين أكسب السوق نكهة عالمية فريدة، وجعل تجربة تجارة الأقمشة في دبي رحلة عبر الحضارات بقدر ما هي صفقة أعمال.

كما لعبت مدينة الأقمشة دوراً في تمكين الصناعات الصغيرة والحرفية على نحو خاص. فمن خلال توفير وحدات بمساحات متدرجة وتكلفة استئجار مدروسة، تمكن رواد أعمال صغار “كمصممي الأزياء الناشئين أو مشاغل الخياطة المحلية” من الحصول على مساحة عمل ضمن مجمع حديث فيه كل التسهيلات. لقد بات بمقدور المصمم الإماراتي أو الخياط الحرفي أن يتجول في المدينة ليجد تشكيلة هائلة من الأقمشة العالمية المتاحة فوراً وبكميات تناسب مشاريعه الصغيرة، بدلاً من اضطراره للسفر إلى أسواق بعيدة أو تحمل شراء كميات ضخمة من المصانع الأجنبية. ويُشير أحد خبراء تكسماس إلى أن قوة دبي التنافسية تكمن في تقديم تشكيلة واسعة من الأقمشة حتى للمشترين ذوي الطلبات الصغيرة والمتوسطة، بخلاف بعض أسواق الإنتاج في الشرق الأقصى التي قد تفرض حداً أدنى مرتفعاً للطلب وتستغرق أشهراً لتنفيذه. هذه المرونة استفاد منها أصحاب الحِرف ومشاغل الأزياء المحلية، فعززت قدرتهم على الابتكار والإنتاج السريع لتصاميم جديدة اعتماداً على المواد المتوفرة محلياً. وبذلك أسهم المشروع في ترسيخ منظومة تدعم ريادة الأعمال في قطاع الموضة والتصميم بالإمارات، تزامناً مع مبادرات أخرى كحي دبي للتصميم الذي انطلق لتعزيز الصناعات الإبداعية.

على المستوى الاجتماعي الأوسع، خلق تجمع هذا العدد الكبير من الشركات تحت مظلة واحدة مجتمعاً مصغراً لتجارة النسيج في دبي. فهناك اليوم أكثر من 10,000  شخص يعملون بشكل مباشر أو غير مباشر في قطاع الأقمشة في الإمارة، بين مستوردين وبائعين وعمال تخزين ونقل ومصممين. وقد أتاحت المدينة لهؤلاء فرص تواصل وتعاون يومي، مما ولّد شبكة علاقات تجارية وإنسانية تزيد من الترابط المجتمعي. كثير من التجار المخضرمين باتوا ينقلون خبراتهم إلى الجيل الجديد ضمن ورش عمل واجتماعات تنظمها تكسماس في قاعات المدينة، مما يشير إلى بُعد معرفي مهم، نقل المهارات وتعزيز ثقافة الجودة في هذه المهنة التقليدية. بذلك تمتد مساهمة المدينة إلى الحفاظ على تراث مهني عريق وتطويره ليتناسب مع معايير العصر الحديث.

شكلت مدينة دبي للأقمشة منذ نشأتها رؤية سبّاقة لدمج عناصر الاقتصاد والثقافة والبيئة في مشروع تنموي واحد. فهي رافعة اقتصادية عززت مكانة دبي كمركز دولي لتجارة المنسوجات، مستفيدةً من بنية تحتية متطورة وحوافز استثمارية قوية. وهي أيضاً جسر ثقافي واجتماعي ربط بين تراث تجارة الأقمشة العريق وروح الابتكار الحديثة، فاحتضنت كبار التجار إلى جانب الحرفيين الصغار في منظومة تكاملية رفدت قطاع التصميم والأزياء المحلي. ولم تُغفل المدينة كونها مشروعاً مستداماً يحمل على عاتقه مسؤولية بيئية في زمن التحديات المناخية، عبر تبني معايير المباني الخضراء وإعادة التدوير وتقنيات ترشيد الطاقة. إن قصة نجاح مدينة دبي للأقمشة تعكس جوهر تجربة دبي التنموية، شراكة متينة بين الحكومة والقطاع الخاص، رؤية مستقبلية تضع الإنسان (التاجر والمستهلك والعامل) في جوهرها، وجرأة على الابتكار في قطاعات تقليدية لتحويلها إلى نقاط قوة اقتصادية. وتماماً كما نسجت خيوط الحرير والقطن عبر الزمن روابط بين الحضارات، تنسج دبي اليوم بخيوط مشاريعها روابط جديدة في المنطقة، روابط تقوم على التنمية والشمولية والاستدامة.