منذ مطلع الألفية الثالثة باتت المدن لا تُقاس فقط بما تمتلكه من بنية تحتية مادية أو قدرة اقتصادية تقليدية، بل بما تنجح في إنتاجه من رموز ومعانٍ وثقافة قادرة على التأثير في وعي المجتمعات. فالإعلام اليوم ليس مجرد صناعة ترفيه، بل رافعة اقتصادية ووسيلة للتموضع السياسي في النظام الدولي وركيزة للتنمية الاجتماعية عبر تشكيل أنماط إدراك جديدة. إن تجربة مدينة دبي للاستوديوهات، وقد بلغت عقدها الثالث، تكشف كيف يمكن لمشروع اقتصادي محلي أن يتحول إلى أداة استراتيجية تتقاطع فيها اعتبارات السوق مع القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية، في سياق سياسي عالمي يقوم على التنافس عبر الصورة بقدر ما يقوم على التنافس عبر الموارد.
النشأة والسياق الاستراتيجي
تأسست مدينة دبي للاستوديوهات في عام 2005 ضمن رؤية استراتيجية أراد بها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، تحويل دبي إلى عاصمة إقليمية وعالمية للإعلام. جاءت هذه الخطوة بعد نجاح مبادرات سابقة مثل مدينتي دبي للإنترنت والإعلام، لتشكل نقطة تحول جديدة في مسيرة دبي الإعلامية العالمية. فقد أدركت القيادة مبكراً أهمية صناعة الإعلام المرئي والمسموع كجزء من خطط التنويع الاقتصادي وبناء اقتصاد قائم على المعرفة. وتم إطلاق المدينة كمنطقة حرة متخصصة تتيح ملكية كاملة للمستثمرين الأجانب وحرية تشغيلية واسعة ضمن إطار تشريعي داعم لجذب المؤسسات الإعلامية والإنتاجية العالمية. وبهذا الأساس الاستراتيجي، أسهم تأسيس مدينة دبي للاستوديوهات في ترسيخ مكانة دبي ليس فقط كمركز إعلامي رائد في المنطقة، وإنما أيضاً كمركز جديد للإنتاج السينمائي استقطب اهتمام صُنّاع السينما من حول العالم. وفي تصريح سابق لمحمد القرقاوي، بصفته مدير عام سلطة دبي للتكنولوجيا والتجارة والإعلام، الجهة المعنية آن ذاك بإطلاق وإدارة المشروع، قال، إن جذب الاستثمارات في مجالات إعلامية متعددة من أبرز أهداف المشروع الجديد، وأكّد أنها ستمثل قاعدة انطلاق لعدد كبير من الشركات والمؤسسات الإعلامية.
آلية العمل
تعتمد مدينة دبي للاستوديوهات في عملها على نموذج المجمع المتكامل الذي يوفر بيئة متكاملة للشركات والعاملين في قطاع الإنتاج الإعلامي. فهي تعمل تحت مظلة مجموعة تيكوم للاستثمارات، التابع لدبي القابضة، التي تدير سلسلة من المناطق الحرة المتخصصة، مما يضمن تناغم الجهود مع مدينتي دبي للإعلام ودبي للإنتاج الشقيقتين. آلية العمل في المدينة تقوم على توفير بنية تحتية متطورة وخدمات حكومية ولوجستية ميسرة من خلال نافذة واحدة لتسهيل إنشاء الأعمال. كما تتميز بإطار تنظيمي واضح ومرن يضمن حرية الإبداع الإعلامي ضمن القوانين، حيث صُممت التشريعات لتشجيع الإنتاج وحماية حقوق المحتوى وتوفير مناخ عمل مستقر وآمن. هذا النهج ساهم في جعل المدينة منصة جاذبة لشركات الإنتاج والتصوير المحليّة والدولية على حد سواء، إذ وجدت في دبي بيئة تسمح لها بالعمل بكفاءة وتنافسية عالية. وإلى جانب ذلك، تبنت المدينة ثقافة الابتكار في الخدمات، فعلى سبيل المثال أُطلقت حاضنة الأعمال in5 للإعلام عام 2013 لدعم رواد الأعمال والشركات الناشئة في مجالات الإعلام الرقمي والتقنيات الإبداعية. وكل ذلك جعل آلية العمل في مدينة دبي للاستوديوهات نموذجاً فريداً يجمع بين تسهيل الأعمال وتعزيز الإبداع ضمن منظومة إعلامية متكاملة.
البنية التحتية
حرصت مدينة دبي للاستوديوهات منذ نشأتها على بناء بنية تحتية عالمية المستوى تلبي متطلبات إنتاج الأفلام والبرامج التلفزيونية وصناعة المحتوى بأرقى المعايير. حيث تمتد المدينة على مساحة شاسعة تقارب 22 مليون قدم مربع ضمن مشروع دبي لاند، وتضم أحدث الاستوديوهات المجهزة بأفضل التقنيات الحديثة في مجالات السينما والتلفزيون. فهي تحتوي على استوديوهين ضخمين معزولين صوتياً ومزودين بأنظمة تصوير وإضاءة متطورة تُعد من الأكبر والأكثر تطوراً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. بالإضافة إلى ذلك، توفر المدينة مناطق مخصصة للتصوير الخارجي تبلغ مساحتها حوالي 3 ملايين قدم مربع، ما يتيح مساحة شاسعة لبناء مواقع تصوير مفتوحة وتجهيز مشاهد سينمائية متنوعة. كما تنتشر في أنحاء المدينة مجموعة كبيرة من الاستوديوهات المتنوعة موزعة على ثمانية عشر مبنى، إلى جانب سبع ورش عمل مخصصة لأغراض صناعة المحتوى. ولم تغفل البنية التحتية الجانب الخدمي والتشغيلي، إذ تحتضن المدينة مكاتب تجارية ومراكز أعمال لشركات الإنتاج والتوزيع، فضلاً عن مرافق دعم كالشركات المتخصصة في المونتاج والهندسة الصوتية وتصميم الأزياء والديكور، بل وحتى خدمات تأجير المعدات الفنية اللازمة. وتعزيزاً لجاذبية البيئة العملية، تتوفر أيضاً مرافق ترفيهية وخدمات معيشية من مطاعم وفندق مخصص (مثل فندق ستوديو ون) لخدمة العاملين والزوار، مما يرسخ مناخ مجتمع إبداعي متكامل داخل المدينة. هذا التكامل في البنية التحتية جعل مدينة دبي للاستوديوهات قادرة على تقديم حلول شاملة لعمليات الإنتاج كافة، بدءاً من مرحلة ما قبل الإنتاج مروراً بالتصوير وانتهاءً بمرحلة المونتاج والإخراج.
الإحصاءات الرسمية
بعد مرور عشرين عاماً على تأسيسها، حققت مدينة دبي للاستوديوهات مكانة بارزة تجسدها الأرقام الرسمية والمؤشرات. فالمدينة تُعد اليوم جزءاً أساسياً من أكبر منظومة أعمال إعلامية في الشرق الأوسط، حيث شكلت مع مدينة دبي للإعلام ومدينة دبي للإنتاج مجتمعاً متكاملاً يضم نحو 3000 شركة ومؤسسة إعلامية، ويعمل ضمنها ما يزيد على 30 ألف من المهنيين والمتخصصين في مختلف قطاعات الإعلام. وعلى مستوى مدينة دبي للاستوديوهات ذاتها، احتضنت المدينة خلال مسيرتها مئات الشركات المختصة في مجال الإنتاج التلفزيوني والسينمائي وصناعة المحتوى، وتشير التقارير إلى أن عددها يزيد عن 250 شركة في الوقت الراهن. وتعكس هذه الأرقام حجم الثقة والاستثمار الذي استقطبته دبي كمركز للإنتاج الإعلامي. إلى جانب ذلك، شهدت المدينة حركة إنتاجية نشطة خلال السنوات الأخيرة؛ فعلى سبيل المثال، بين عامي 2017 و2020 تم تصوير أكثر من 4000 عمل سينمائي وتلفزيوني في مرافق المدينة بميزانيات إجمالية تجاوزت 400 مليون درهم إماراتي. واستقطبت هذه الإنتاجات العالمية نخبة من الأعمال البارزة، ما يؤكد مدى الجاذبية التي تتمتع بها البنية التحتية والخدمات التي توفرها المدينة لصنّاع المحتوى. كما تحتضن المدينة عدداً من الشركات العالمية والإقليمية المعروفة التي اختارت إنشاء مراكز لها ضمنها، مستفيدةً من البيئة الداعمة. هذه الإحصاءات الرسمية تؤكد أن مدينة دبي للاستوديوهات لم تكن مجرد مشروع طموح على الورق، بل ترجمت إلى إنجازات فعلية وأرقام تعكس مدى الإقبال المحلي والدولي على الاستفادة من التسهيلات التي تقدمها دبي في مجال الإعلام والإنتاج.
التأثير الإعلامي والثقافي
لم يقتصر دور مدينة دبي للاستوديوهات على استقطاب الشركات والإنتاجات فحسب، بل امتد تأثيرها إلى المشهد الإعلامي والثقافي في دولة الإمارات والمنطقة بشكل واضح. فمنذ انطلاقتها، ساهمت المدينة في تعزيز مكانة دبي كمركز حيوي للإنتاج الإعلامي والمحتوى الإبداعي، الأمر الذي دعم التحولات الإيجابية في صناعة الإعلام المحلي والعربي. إن وجود هذه المنصة المتطورة في قلب دبي أتاح للإعلاميين وصناع الأفلام في المنطقة فرصاً غير مسبوقة للتعاون مع خبرات عالمية واكتساب معارف جديدة، ما رفع معايير جودة الإنتاج المحلي. إذ أسهم إطلاق المدينة “كنقطة تحول في 2005” في جذب أنظار صنّاع السينما العالميين إلى دبي، حيث أصبحت الإمارة وجهة تصوير معترف بها دولياً. فأفلام هوليوودية ضخمة مثل “المهمة المستحيلة” و”ستار تريك بيوند”، وأعمال لنجوم عالميين كجاكي شان في فيلم “فانجارد” و”كونغ فو يوغا”، استفادت من مرافق المدينة الحديثة. فقد أضاف ظهور معالم دبي ومعايير إنتاجها المتقدمة في هذه الأفلام بُعداً ثقافياً، إذ تعرّف جمهور عالمي واسع على دبي كمدينة حديثة من خلال الشاشة. وفي الوقت نفسه، شجّعت المدينة إنتاج أعمال تلفزيونية محلية وعربية ناجحة مثل برنامج “ماستر شيف أرابيا” و”ذا كيوب” وغيرها، ما عزز صناعة الترفيه العربي وأظهر قدرة المنطقة على تقديم محتوى منافس. علاوة على ذلك، برز دور المدينة خلال جائحة كورونا في دعم المبدعين المحليين عبر مبادرات مثل سلسلة المحادثات الرقمية الأسبوعية “Reel Talks” التي استضافت مخرجين ومنتجين إماراتيين وعرب لمشاركة خبراتهم. وأسهمت المدينة أيضاً في استضافة فعاليات ثقافية وإبداعية ضخمة كمنتدى ON.DXB الذي جمع بين صناعات الأفلام والألعاب والموسيقى، وحفل تكريم مبادرة “صنّاع الأمل” وغيرها من الفعاليات الكبرى. هذه الإسهامات جعلت من مدينة دبي للاستوديوهات أكثر من مجرد منطقة إنتاج أعمال، فهي منصة لتمكين الثقافة والإبداع وتبادل الأفكار، حيث بات وجودها يدعم بناء مجتمع إبداعي نابض بالحياة في دبي، ويمتد أثره ليثري المشهد الإعلامي العربي بوجه عام.
دورها في القوة الناعمة
أصبح للإعلام وصناعة المحتوى دور محوري في صياغة القوة الناعمة للدول، وقد جسدت مدينة دبي للاستوديوهات هذا المفهوم بوضوح في حالة دولة الإمارات. فمن خلال استقطاب المؤسسات الإعلامية الكبرى والإنتاجات العالمية، عززت دبي حضورها وتأثيرها الثقافي على المستوى الدولي. إن الأفلام والبرامج المصوّرة في دبي والتي تُبث لجمهور عالمي تسهم في نقل صورة إيجابية عن الإمارات، وتعرّف الملايين بثقافة الدولة ونهضتها العمرانية والتقنية بشكل ضمني. هذا الشكل من “الدبلوماسية الإعلامية” جعل دبي شريكاً أساسياً في الحوار العالمي عبر المحتوى. في عام 2020، اختيرت دبي عاصمة للإعلام العربي عن ذلك العام، تقديراً لمسيرتها الإعلامية المؤثرة، الأمر الذي يؤكد الريادة الإماراتية في هذا القطاع. ولم يأت هذا الاختيار إلا بعد أن تركت دبي بصمتها الواضحة على صفحة الإعلام العربي، عبر مشروعات نوعية دعمت الإعلاميين ووفرت لهم بيئة ازدهرت فيها حرية الإبداع والمسؤولية المجتمعية معاً. وبهذا، أصبحت مدينة دبي للاستوديوهات جزءاً من سردية النجاح الإماراتي في توظيف الإعلام لتعزيز القوة الناعمة، سواء عبر بناء جسور التواصل الثقافي مع شعوب العالم، أو عبر ترسيخ صورة الإمارات كحاضنة للإبداع والمبدعين.
حصيلة عقدين: موقع المدينة في مشهد الإنتاج
تُمثِّل مدينة دبي للاستوديوهات حصيلة مسارٍ بدأ مطلع الألفية لبناء منظومة إعلامية متكاملة؛ بيئة أعمال واضحة، وبنية إنتاج جاهزة، وخدمات مساندة تقلّل زمن الإنجاز وتُحسّن الجودة. لم تُنشأ ككيانٍ معزول، بل كحلقة تُكمل ما بدأته دبي في الإعلام والإنترنت والإنتاج، حيث تتجاور مراحل التصوير مع خدمات ما بعد الإنتاج وتعمل الشركات والمواهب ضمن شبكة واحدة تُراكم خبراتٍ محلية قابلة للنقل. يأتي هذا التوجّه في إطار رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لجعل دبي مركزًا فاعلًا للإعلام مع قراءة مبكّرة لتقاطع الإعلام بالتقنية الرقمية، بينما أسهم معالي محمد القرقاوي، رئيس شركة دبي القابضة آن ذاك، في قيادة فرق التأسيس وتوحيد الجهود بين مدينة دبي للإعلام والإنتاج والاستوديوهات وإرساء أطرٍ تنظيمية ساعدت على جذب شركات إقليمية ودولية. ومع التغيّر السريع في الصناعة عالميًا وتزايد الطلب على محتوى عربي عالي الجودة، تواصل المدينة تحديث تجهيزاتها، وتوسيع الشراكات التدريبية، وتطوير الإجراءات بما يواكب احتياجات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والرقمي. وبنهج عملي يقوم على التخطيط الدقيق والتنفيذ المنتظم والتحسين المستمر، تواصل المدينة تطوير قدراتها وتظل عنصرًا ضمن منظومة تتطور تدريجيًا وفق متطلبات السوق والمعايير المهنية.