الإثنين, 24 نوفمبر, 2025


شركة دو … المنافسة والابتكار في الاقتصاد الرقمي
en
تقرير حصري 14 نوفمبر 2025
شركة دو

مع مطلع الألفية الجديدة، شهد قطاع الاتصالات في دولة الإمارات العربية المتحدة تحولات كبيرة نتيجة التوسع الاقتصادي والتكنولوجي المتسارع. وفي هذا السياق، تأسست شركة دو عام 2006 كمشغّل ثانٍ للاتصالات في السوق المحلي، بهدف تعزيز المنافسة وتوسيع نطاق الخدمات المتاحة للمستهلكين، تحت مظلة شركة دبي القابضة. دخول “دو” لم يقتصر على إضافة خيار جديد للمستخدمين، بل شكّل خطوة استراتيجية لتنويع البنية التحتية للاتصالات وتطوير بيئة أعمال أكثر انفتاحاً على الابتكار والاستثمار.

وقد ظهر حينها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وهو يضع شريحة الاتصال الخاصة بشركة “دو” في هاتفه ويستخدمها فعلياً، في إشارة رمزية إلى بدء مرحلة جديدة في قطاع الاتصالات المحلي، وافتتاح فصل من المنافسة التي كان يُنظر إليها على أنها خطوة أساسية نحو تطوير الخدمات وتعزيز الابتكار في السوق الإماراتي.

وقد صرح حينها معالي محمد القرقاوي، رئيس شركة دبي القابضة آن ذاك، بأن “وجودِ مزوّدٍ ثانٍ للاتصالات يوسّع خيارات المستهلك ويُحسّن جودة الخدمة ويخفض التكلفة”، مؤكداً أنّ “فتحَ أبواب المنافسة لا ينتقص من قدرات المزوّد القائم بل ينعكس إيجاباً على الاقتصاد كلّه”

هذا التصور انتقل من الفكرة إلى التطبيق حين أُسِّست “دو” رسمياً، وأُسنِدت إلى أحمد بن بيات رئاسة مجلس الإدارة، وإلى عثمان سلطان منصب الرئيس التنفيذي عام 2006 لبلورة شركة قادرة على تحفيز ديناميكية السوق وابتكار بدائل تلبي تطلعات المجتمع. وما إن أعلنت الشركة التي تشغل الرمز 055 عن حملة My Number055  حتى اصطف الناس لحجز أرقامهم الجديدة التي تحتفظ بنفس أرقام هواتفهم الحالية لكن تبدأ بـ055، وفي غضون أسابيع، حجز نحو نصف مليون عميل أكثر من 750 ألف رقم مسبقاً، إيذاناً بالانتقال الرمزي من البادئة 050 إلى 055 قبل الإطلاق التجاري في 11 فبراير 2007.

تعزيز المنافسة

كان مسار دو، منذ انطلاقها التجاري في فبراير 2007، يجسد أثر المنافسة على نمو قاعدة المشتركين في دولة الإمارات. بعد أقل من عام، أعلنت الشركة تجاوز 1.5 مليون عميل مع نهاية 2007، وهو رقم لافت في سوق مشبعة أصلاً بالشرائح الهاتفية. وفي الربع الأول من 2008 ارتفع العدد إلى نحو 1.7 مليون مستخدم نشط، بحسب تقارير صحفية استندت إلى إفصاحات الشركة آنذاك. وبنهاية الربع الثاني 2009 بلغ إجمالي المشتركين 2.9 مليون، رغم تباطؤ الاقتصاد العالمي حينها. وواصلت القاعدة توسعها لتتخطى 5.2 مليون مشترك في الربع الأخير 2011. وفي نهاية 2014 أعلنت “دو” أنها تخدم نحو 7.3 ملايين مشترك نشط، محافظةً على زخم النمو، مع توسّع ملحوظ في استخدام شرائح الخطوط المفوترة ذات العائد الأعلى.

وانعكست هذه المنافسة المنظمَة على سلوك المستهلكين بشكل ملحوظ، فالتحوّل من نظام أحادي إلى تعددية خدمية (مثل باقات متعددة وأجهزة واسعة الانتشار) أدى إلى توسّع انتشار الهواتف الذكية وخدمات الإنترنت. كما أن انتشار المنافسة شرّع الباب أمام ابتكارات جديدة في باقات الجوّال والثابت، وبالتالي ارتفع مستوى رضا المستفيدين، وانعكس ذلك في نمو قاعدة المشتركين وتزايد الطلب على الخدمات العالية السعة، تماماً كما أثبت مؤشر هيئة تنظيم الاتصالات بأن إجمالي اشتراكات الهاتف المتحرّك في الإمارات نمت بنسبة 5.3%  بنهاية مايو 2024 (إجمالي السوق 21.4 مليون. وتُقدَّر القيمة السوقية للشركة اليوم بنحو 46.8 مليار درهم، ما يضعها بين أكبر شركات الاتصالات في المنطقة من حيث رأس المال المدرج بحسب بيانات صدرت في يوليو 2025.

“دو” والتحول الرقمي… الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس والبيانات السحابية

لم تقف “دو” عند حدود توسيع المنافسة فقط، بل تبنّت استراتيجيات رقميّة رائدة لتعزيز مكانتها في اقتصاد المعرفة المتحوّل، فقد كانت من أولى الشركات الإماراتية التي دشّنت شبكة الجيل الخامس 5G، وسارعت إلى استشراف الجيل الخامس المتطوّر5G-Advanced.  في ديسمبر 2024 مثلاً أعلنت “دو” افتتاح مركز دو للابتكار في دبي، وهو مختبر رقمي يركّز على استكشاف الإمكانات التجارية لتقنيات 5G- المتقدمة والذكاء الاصطناعي، وذكرت الشركة أن هذا المركز سيعمل على دمج الذكاء الاصطناعي مع الواقع المعزّز والأنظمة المفتوحة في تجارب وتطبيقات عملية، بهدف تحسين أداء الشبكات ودعم خدمات متطورة (مثل البث المباشر والألعاب والتطبيقات الصناعية) بفضل سرعات رفع وتنزيل عالية وزمن استجابة منخفض​، وهذا ينسجم مع رؤية عالمية ترى في الثورة التقنية المتلاحقة (الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء والحوسبة السحابية) الدافع الأساسي لولادة قطاعات اقتصادية جديدة، حيث تتجلى الرأسمالية في عملية مستمرة من التغيير والتطور الإبداعي أي أنها نمط ديناميكي يحل فيه الجديد محل القديم ويُحفِّز التقدّم المستدام.

كما عزّزت “دو” بنيتها التحتية للانتقال إلى الاقتصاد المعرفي عبر شراكات استراتيجية، فقد أعلن الرئيس التنفيذي للشركة أن “شراكة (دو) مع أوراكل ستمكن (الشركة) من توفير خدمات الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي السيادي للقطاع العام في الإمارات”. ​وهذا يعني أن “دو” لا تقتصر على تقديم خدمات اتصال فحسب، بل تعمل على بناء النظام الإيكولوجي الضروري للمؤسسات الرقمية الحكومية والخاصة على حدّ سواء، وفي خطوة مماثلة، توسّعت الشركة في خدمات التكنولوجيا المالية، حيث تجاوز الطلب على منصتها المبتكرة du Pay  للتعاملات الرقمية كل التوقعات في الربع الأول منذ إطلاقها​، ومن شأن هذه الابتكارات أن تسرّع بدورها ظهور اقتصاد رقمي مطّرد معرفياً، حيث تقوم المنتجات والخدمات على القيمة المضافة للمعلومات والبيانات.

شركة دو

دور “دو” في ترسيخ الابتكار المؤسسي والمعرفي

على امتداد جهودها التقنيّة، شجّعت “دو” أيضاً ثقافة الابتكار المؤسسي من خلال مؤسسات ومعاهد متخصصة، فبالإضافة إلى مركز الابتكار المذكور، أنشأت الشركة برامج تدريبية وبحثية لتهيئة الكفاءات الوطنية في مجال الاتصالات والتقنيات الحديثة كما جرى في السابق تأسيس مختبرات داخلية للشركة ومشاركات في مشاريع بحثية مشتركة مع جامعات ومؤسسات دولية ومثال ذلك برنامج الدبلوم التنفيذي للاتصال الرقمي الحكومي الذي تتعاون فيه “دو” مع أكاديمية الإعلام الجديد، والذي يهدف إلى دعم مهارات فرق الاتصال الحكومي وتأهيلهم لأفضل الممارسات العالمية في الاتصال الرقمي.

ينبثق من ذلك دور “دو” كحلقة وصل بين القطاع التعليمي والمؤسساتي، حيث تساعد على نقل المعرفة التقنية للمجتمع. ويعزز شراكة الشركة مع الحكومة تجاه “رقمنة” الخدمات الذكية وزيادة مساهمة الإمارات في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، ولا يخفى أن بناء مثل هذه البنى المعرفية يعود بالفائدة على المجتمع الرقمي برُمته؛ فالشركات التي تمتلك مراكز ابتكار متقدمة تخلق بيئة يحفّز فيها البحث العلمي والتجريبي تطوير الاقتصاد الوطني، ولهذا، يؤكد فهد الحساوي، الرئيس التنفيذي لـ”دو”، أنّ الشركة تركز استثمارها على “تعزيز قدراتنا على مواكبة متطلبات المستقبل الرقمي… وإرساء أسس متينة للنمو على المدى الطويل”، وإن دلّ ذلك على شيء، فإنما يُدلّ على رؤية “دو” الكامنة في تبني استراتيجية رقمية شاملة تهدف إلى تحويل الإمارات إلى مركز إقليمي للابتكار الرقمي.

المبادرة الاجتماعية لشركة “دو” والتحول في العلاقة مع المجتمع

لم تقتصر مبادرات “دو” على الجوانب التقنية والاقتصادية، بل كان لها دور اجتماعي رائد يعكس التحوّل في مفهوم علاقة المؤسسات بالمجتمع، فقد اعتمدت الشركة سلسلة برامج ومسؤوليات مجتمعية (Corporate Social Responsibility) تتجاوز التبرعات التقليدية، موجهة إسهاماتها نحو التعليم والصحة والمبادرات الثقافية، وأحد المؤشرات على ذلك حصول “دو” على تراخيص علاماتها التجارية للممارسات البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) من جهات معتمدة، تقديراً لجهودها في الاستدامة والممارسات الأخلاقية، وتشير بيانات تقييم سابقة إلى أن “دو” حققت زيادة بلغت 9.6%  في نقاطها الإجمالية ضمن تقييم المسؤولية الاجتماعية للشركات​، خصوصاً في فئتي السوق والمجتمع، ويرى الخبراء أن هذه الإنجازات توضح كيف أن الشركات الكبرى في الإمارات بدأت في تضمين المسؤولية الاجتماعية في استراتيجيتها الأساسية، فمثلاً قدّمت “دو” منحاً دراسية بلغت قيمتها خمس ملايين درهم للطلاب المتميزين بالتعاون مع جامعات محلية، وأطلقت مبادرات ثقافية مثل “دو على هواك!” لتمويل الفعاليات الموسيقية والفنية للجمهور.

كما ذكرت التقارير الاقتصادية أن “دو” تمتلك حصة قوية في أرقام المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات، خصوصاً في البعد المجتمعي (حققت فئة المجتمع زيادة 10.7% في التقييم مقارنة بعام 2011​)، إن هذا التعزيز لمشاركة القطاع الخاص في قضايا المجتمع يبيّن مساراً فلسفياً جديداً، وهو أن المؤسسات الصغرى والكبرى باتت تصبو إلى بناء رأس مال اجتماعي ومعرفي، كمساهمة في رواج التنمية البشرية والرفاه العام.

“دو” والتجارة الإلكترونية: التأثير التقني والثقافي

ساهمت “دو” أيضاً في تسريع انتشار التجارة الإلكترونية ليس فقط عبر البنية التحتية التقنية، بل على الصعيدين الثقافي والاجتماعي، فتوفر الشركة شبكة إنترنت عالية السرعة (بما في ذلك الجيل الخامس) وعروض بيانات وفرت القدرة على الوصول إلى المتاجر والمنصات الرقمية بسهولة، مما خلق بيئة مواتية لانتقال حركة البيع والتسوّق إلى المنصّات الإلكترونية كما طوّرت خدمات الدفع الرقمي مثل du Pay لربط الشمول المالي بالتجارة الإلكترونية، إلى درجة أن البنك المركزي لاحظ نمواً ملحوظاً في التعاملات الرقمية بدعم من هذه الحلول، فعلى سبيل المثال تجاوز الطلب على du Pay التوقعات في أول ربع كامل من طرحها في السوق​، الأمر الذي يعتبر مؤشراً على قبول المجتمع للفكرة الجديدة وتشجيعه على استخدام تطبيقات الدفع عبر الهواتف، وعلى الصعيد الثقافي، عملت “دو” من خلال مبادرات مثل دعم ريادة الأعمال الرقمية وتثقيف الجمهور بأهمية الاقتصاد الرقمي على تغيير النظرة التقليدية نحو التجارة، فقد ظهر جيل جديد من المتسوقين والشركات تعتمد على المنصّات الإلكترونية للتسويق والشراء، مدفوعاً بثقافة رقمية مستحدثة مدعومة بوعي تكنولوجي أوسع، وفي ضوء التغيرات التي شهدتها الاقتصادات العالمية في هذا المجال، يمكن القول إن “دو” كانت أحد العوامل المحرِّكة لهذا التحول في الإمارات، كونها وفّرت المرتكز التقني والمحفزات التنظيمية والتوعوية معاً، فأسهمت في تغيير عادات الاستهلاك والإنفاق باتجاه معطيات الاقتصاد الرقمي.

في ضوء كل ما سبق، تتجسّد مساهمة “دو” في الإمارات كحالة نموذجية تجمع بين فلسفة السوق الحر والمبادرات الابتكارية والاجتماعية، فمن تأسيسها كخيار حكومي لتحرير سوق الاتصالات​، إلى دعمها لمفاهيم التنافسية والتعددية الخدمية لتحسين جودة الحياة للمستهلكين، مروراً بإسهاماتها في بناء الاقتصاد الرقمي عبر الذكاء الاصطناعي والجيل الخامس، وانتهاءً بمشروعاتها المجتمعية، يمكن القول إن “دو” لعبت دوراً مفصلياً في صياغة الواقع الاقتصادي والاجتماعي الجديد للإمارات.