الإثنين, 23 يونيو, 2025


بيروقراطية صفر، كفاءة مئة… ملامح حكومة المستقبل في دولة الإمارات
en
يونيو, 2025
بيروقراطية صفر

منذ فجر التاريخ، كانت النُظم هي الجسر الذي يصل بين الفكرة وتحقيقها، وبين الحلم والمجتمع الذي يتبناه. فبدون نظام، لا يمكن بناء دولة، ولا حفظ حضارة، ولا حماية الحقوق. من قوانين التشريع في أثينا القديمة، إلى أنظمة العدالة في روما.. ومن ديوان بيت المال في الحضارة الإسلامية، إلى أنظمة تسجيل الأراضي والسجلات المدنية الحديثة – كلها أمثلة على أهمية النُظم لتنظيم حياة البشر. لكن ما يبدأ كأداة لتنظيم الحياة، قد يتحول بمرور الزمن إلى عقد متشابكة تعيق التقدم.

هكذا نشأت البيروقراطية: نظام لإدارة التفاصيل، سهل حياة الناس ونظمها إلا أنهم انغمسوا بتفاصيله إلا حدٍ حوّله إلى متاهة تضيع فيها المبادرات وتبطؤ بها سرعة الإنجاز. وفي زمن تتسارع فيه التكنولوجيا وترتفع فيه التوقعات، لم يعد مقبولاً أن تُعرقِل النماذج الورقية والتوقيعات المتكررة مسيرة التقدم، ولم يعد مقبولاً أن يُقاس الإبداع بعدد الأختام.

من هنا، برزت أهمية مبادرة “تصفير البيروقراطية”. لا باعتبارها إلغاءً للنظام، بل كإعادة تعريف له: من أداة تُبطئ إلى منصة تُسرّع، ومن عبء إداري إلى مُمكّن حقيقي للتغيير.

قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ذات مرة، في استعارة فكرية وجدت لاحقاً صداها في نقد البيروقراطية الحديثة، إن “الآلة الضخمة يقودها أقزام”، في وصف لحالة يصبح فيها النظام أكبر من الإنسان الذي صنعه، وتصبح قواعده أقوى من منطق التقدم ذاته. وامتدت هذه الفكرة عبر أعمال مفكرين لاحقين مثل إريك فروم، وماكس فيبر الذي نظر للبيروقراطية كنظام ضروري، يضمن العدالة والفعالية. لكنه حذّر أيضاً من أنها قد تتحول إلى “قفص حديدي” يسجن العقل الإنساني داخل حدود الروتين، ويُفقد المؤسسات قدرتها على التكيّف.

وعند تأمّل التجربة الإدارية لدولة الإمارات، يمكن ملاحظة مسار تطوّر متدرج انتقل من الرقمنة إلى ما بعد الرقمنة. فمنذ إطلاق مبادرات مثل “دبي الآن” و”حكومة الإمارات الذكية” في عام 2013، تم تحويل آلاف الخدمات من إجراءات ورقية تقليدية إلى عمليات رقمية فورية، تُدار بكفاءة وتُقاس نتائجها بوضوح. غير أن أي نظام متجذر لا يخلو من بعض الرواسب؛ إذ ظلّت بعض أجزاء المنظومة الإدارية تحتفظ بجيوب من التعقيد، تعود في الغالب إلى إرث الإجراءات القديمة. ومع تزايد هذه الجيوب، لم تعد المعالجة ممكنة عبر أدوات التحسين الجزئي، بل أصبحت هناك حاجة إلى مقاربة أكثر واقعية وجرأة. لا لهدم البيروقراطية بوصفها جزءاً من الذاكرة المؤسسية، بل لإعادة ضبطها وتصفير تعقيداتها، حتى لا تكون عبئاً على الأفراد والاقتصاد.

أطلقت حكومة دولة الإمارات العربية المتحدة برنامج “تصفير البيروقراطية” في فبراير 2024، في تجمع حكومي ضم مجموعة من الوزراء والمسؤولين، معلنة بداية مرحلة تُصاغ فيها السياسات من منظور المتعامل، لا من منظور النظام الإداري. وفي هذا السياق تستحضر المبادرة، لا على سبيل الشعار بل كبوصلة عملية، رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، حين قال: “هدفنا تسهيل حياة الناس، وخدمة الناس بما يستحقونه في دولة الإمارات… هدفنا أن نكون أفضل حكومة في العالم في تقديم الخدمات”.

فلسفياً، تتجلى المبادرة كعودة إلى جوهر العقد الاجتماعي القائم على السرعة والشفافية. وبراغماتياً، تُرسِّخ أن الرشاقة التنظيمية ليست حالةً استثنائية بل معيار كفاءة مستدام، إذ يُقاس النجاح بعمق الرضا وقصر المسافة بين الطلب والاستجابة، فتتحول البيروقراطية من متاهة ورقية إلى خوارزمية قابلة للتحديث والاختصار المستمر.

 

الجذور والدوافع: من المستفيد؟

نشأت مبادرة “تصفير البيروقراطية الحكومية” ضمن رؤية أوسع لتعزيز كفاءة الدولة ومرونتها في مواجهة التحديات المستقبلية. فقد أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في فبراير 2024، معلناً أن الهدف الرئيسي هو تيسير حياة الناس وتخفيف العبء عن المؤسسات والمواطنين. وقد وجّه سموه الجهات الحكومية إلى إلغاء2000  إجراء حكومي على الأقل خلال عام واحد. وتقليص مدد إنهاء المعاملات بنسبة لا تقل عن 50%. وأكد الشيخ محمد على أن مهمة الوزارات الأولى هي “تطوير خدماتها وإجراءاتها وتبني نماذج عمل ذات كفاءة عالية محورها خدمة الناس وتصفير البيروقراطية”.

يَعكس هذا التوجّه إرادة قيادة الإمارات في إعادة هيكلة العمل الحكومي نحو مرونة استثنائية. وكما أكد معالي محمد عبد الله القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء، خلال كلمته الافتتاحية ضمن فعالية إطلاق برنامج “تصفير البيروقراطية الحكومية”، أن المبادرة تمثل نموذج عمل وطني لإحداث نقلة نوعية في العمل الحكومي للوصول إلى إجراءات هي الأبسط والأسرع والأسهل والأكفأ. وعبّر معاليه عن رؤية قيادية ترى في تبسيط الإجراءات قوّة دافعة للتطوير، مؤكداً أن “الإجراءات الحكومية ليست معيار جودة العمل بقدر ما هو مقياس قدرتها على التبسيط وتوفير تجارب سلسة للمواطنين”.

واستحضر معالي محمد عبد الله القرقاوي عدداً من النماذج الملموسة التي تُجسّد كيف ينبغي للخدمة الحكومية أن تتحوّل من “رحلة أوراق” إلى “نقرة واحدة”. وضرب معاليه أول هذه الأمثلة بخدمة تجديد جواز السفر، التي كانت تتطلب في الماضي زيارات متعددة واستمارات مطوّلة، لتصبح اليوم معاملة رقمية لا تتجاوز دقائق معدودة تُنجَز عبر الهوية الرقمية، فيما خُفِّضت حقول نموذج إصدار أو تجديد بطاقة الهوية إلى ستة حقول فحسب. ثم انتقل إلى “باقة أسرتي” التي اختزلت مسار تأسيس الأسرة الإماراتية من 16 زيارة إلى زيارة واحدة بلا أوراق، مؤكداً أن القيمة هنا ليست في عدد الخطوات الملغاة بل في الزمن المُستعاد لحياة الناس. وعلى المنوال نفسه، نوَّه القرقاوي إلى النموذج الجديد لمعادلة الشهادات الدراسيّة الذي تقلص إلى حقلين فقط، وخلاصة هذه الأمثلة هي الوصول إلى “صفر ورق، صفر انتظار، وقيمةٌ تُصاغ بلغة الوقت”، وهو ما يجعل الحكومة شريكاً يومياً في رفاه المواطن.

 

آليات التنفيذ والتقنيات المتبناة

ترتكز مبادرة تصفير البيروقراطية على إعادة هندسة العمليات الحكومية بالاستفادة الكاملة من التحول الرقمي والتقنيات الحديثة. فقد أصدرت الحكومة توجيهات فورية لكل وزارة وهيئة باتخاذ خطوات عملية تتضمن دمج الإجراءات وتبسيط النماذج الورقية وتحويلها إلى منصات إلكترونية موحدة. فمثلاً أشارت تصريحات رسمية إلى أن الإلغاء المتعلق بالبرنامج يشمل الإجراءات المستندية وتسليم المعاملات في مكان واحد بدل التنقل بين مبانٍ متعددة. كما أطلقت الجهات الحكومية ورش عمل وجلسات تدريبية لنشر ثقافة المبادرة وفهم طبيعة الأهداف الجديدة، فضلاً عن حزمة حوافز مادية ومعنوية للمؤسسات والأفراد الذين يحققون أعلى نسبة تقليص في الإجراءات غير الضرورية.

في هذا السياق أصبح الذكاء الاصطناعي عنصراً أساسياً لتصفير البيروقراطية، وقد عقدت جامعة الإمارات ورشة عمل شرحت فيها كيف يمكن للتقنيات الذكية أن ترفع كفاءة الإجراءات الحكومية، وأكد الخبراء أن تطوير حلول مبنية على الذكاء الاصطناعي سيساعد مباشرةً على تبسيط المعاملات وتسريعها. كذلك عُرض نظام يعتمد على الذكاء الاصطناعي لدعم اتخاذ القرار، إذ يفحص المستندات ويتابع سير الإجراءات آلياً، فيقلل زمن إنجاز المعاملة ويحد من الأخطاء البشرية، لتصبح الإدارة الحكومية أسرع وأكثر دقة ومرونة.

من جهة أخرى، تسعى المؤسسات الحكومية إلى إرساء بنى رقمية متكاملة كأساس للاستدامة، على سبيل المثال قامت وزارة الموارد البشرية والتوطين بتوحيد خدماتها إلى بيئة سحابية موحّدة (FEDnet) لتعزيز الأمان والتوسع في تقديم الخدمات الرقمية. وأطلقت مبادرات مثل “باقة العمل” لتقديم حزمة خدمات متكاملة وشاملة مع متطلبات مبسّطة بشكل كبير. وبالمثل ينظم برنامج تصفير البيروقراطية مسابقات داخلية وخارجية، مثل شهر تصفير البيروقراطية وجائزة تصفير البيروقراطية الحكومية، بهدف تحفيز الجهات بإداراتها وموظفيها على ابتكار أفكار عملية لتقليص الإجراءات وتطوير الخدمات.

مقارنة عالمية: تجارب سنغافورة وإستونيا والسويد 

مقارنةً بالوصف الإماراتي “تصفير البيروقراطية”، تتبنى الاقتصادات الرقمية المتقدمة مسمّيات مختلفة للمقاربة ذاتها. سنغافورة مثلاً، تجمع جهودها تحت شعار “Smart Nation”الأمة الذكية، فيما تُعرِّف إستونيا مشروعها بـ”الدولة الإلكترونية – e-Estonia”، بينما تصف السويد تحوّلها بـ”الحكومة الرقمية الشاملة”. ومع اختلاف العناوين، يبقى الهدف واحداً، تحييد الاحتكاك الورقي بين الفرد والدولة عبر منصات مترابطة وإجراءات مبسطة.

يبين تقرير الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونيّة 2024 أن الدنمارك، وإستونيا، وسنغافورة تقدمت المراتب الثلاثة الأولى لِجودة الخدمات الرقميّة، ضمن تصنيف “مرتفع جداً” الذي حجزت الإمارات مكاناً لها فيه أيضاً بالمرتبة 11 عالمياً. في سنغافورة، تمكّن هوية Singpass، التي تشمل 97٪ من السكان وأكثر من 2000 خدمة، المتعاملَ من مشاركة بياناته بين الجهات الحكومية بضغطة واحدة، مُسقطةً الحاجة إلى المستندات الورقية أو التكرار اليدوي للبيانات. أما إستونيا، فترتكز إلى ما تسمّيه “مبدأ المرة الواحدة”  Once Only Principle، حيث لا يُطلَب من المواطن أو الشركة تقديم المعلومة نفسها مرتين على الإطلاق، وتُخزَّن البيانات المؤكَّدة في سجلات أساسية، وتتواصل الهيئات عبر منصّة X-Road لتبادلها عند الحاجة. بالتالي يُنجز التصويت الإلكتروني، والرعاية الصحية، والجمارك، وأغلب معاملات الأعمال خلال دقائق. إن هذا المبدأ، المدعوم بهوية رقمية موحدة وبنية تحتية آمنة قائمة على الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، هو ما جعل إستونيا تتصدر المؤشرات وتقدم نموذجاً قابلاً للتعميم.

تُقدّم هذه التجارب العالمية دروساً هامّة… فالحكومات الرائدة تسلّحت بتقنيات موحّدة لإدارة الهوية الرقمية، وبمنصات تكاملية تشترك فيها جميع المؤسسات، وتستخدم البيانات بفعالية لخدمة المواطنين. ومع ذلك يصح التنبيه بأن التحول الرقمي في الخدمة العامة لا يخلو من تحديات، حيث تؤكد دراسة الأمم المتحدة أن العديد من الدول ما زالت تواجه صعوبات في الاستثمار بهذه التقنيات بشكل كامل لتحسين الخدمات وزيادة المشاركة المجتمعية، وتشمل التحديات الافتقار إلى البنية التحتية الكافية في بعض المناطق، وتأمين البيانات الحساسة، وضمان شمولية الخدمات لجميع شرائح المجتمع بغض النظر عن المهارة الرقمية أو العمر.

 

القيادة والتقييم: شهادة على النتائج

تحمل القيادة الإماراتية مسؤولية متابعة برنامج تصفير البيروقراطية وتقييمِ جدواه عبر آليات مدروسة تعظّم أثره في جودة الخدمات الحكومية. وقد بيّنت سعادة بدرية الميدور، وكيل وزارة الاقتصاد المساعد لقطاع الخدمات المساندة، أن الوزارة أنجزت خلال عام 2024 خطة تنفيذية متكاملة مكّنت من تسهيل الإجراءات وتبسيطها بما ينسجم مع أهداف برنامج تصفير البيروقراطية. وفي المرحلة الراهنة، تستعد الوزارة لإجراء تقييمٍ شامل يقيس مدى انعكاس هذه التحسينات على مستويات رضا المتعاملين.

ولرفع وتسريع وتيرة التنفيذ، أطلقت الحكومة “جائزة تصفير البيروقراطية”، تحفيزاً للجهات على تبسيط الإجراءات وتعزيز الكفاءة.
وتُمنح الجائزة لسبع فئات تشمل أفضل الفرق الحكومية والأفكار الابتكارية والأثر المجتمعي، وتصل القيمة الإجمالية للجائزة إلى 7 ملايين درهم، ما يعكس جديّة الدولة في إعادة هيكلة العمل المؤسسي وتحفيز الكفاءات. وقد شهدت النسخة الأولى من الجائزة مشاركة أكثر من 600 فريق من 30 جهة حكومية، في سابقة على مستوى العالم العربي.

لكن هذا التحول الرقمي يفرض تحديات تتعلق بأمن البيانات، خصوصاً مع تزايد الاعتماد على الحوسبة السحابية. وقد أشار “مركز دبي للأمن الإلكتروني”، وهي جهة محلية في إمارة دبي، إلى أن عدد الخدمات الحكومية المعتمدة على الحوسبة السحابية تجاوز 950 خدمة تغطي أكثر من 100 جهة حكومية. وهو ما يتطلب تطبيق معايير دولية صارمة لضمان خصوصية وأمن المعلومات. ومن ناحية أخرى، تسعى الحكومة إلى تعزيز التنسيق بين الجهات الاتحادية والمحلية، لتجنب تكرار الإجراءات وضمان التكامل. وقد نظمت الجهات المعنية، وعلى رأسها مكتب رئاسة مجلس الوزراء، ورش عمل موسعة ضمت أكثر من 300 مسؤول من القطاعين العام والخاص، بهدف توحيد الجهود نحو نموذج حكومي أكثر تكاملاً وفاعلية، يتجاوز العقبات المؤسسية التقليدية التي تعيق انسياب الخدمات.

بهذه الخطوات، تبرهن الإمارات أن التحول في شكل الحكومة لا يعني فقط إدخال التكنولوجيا، بل أيضاً مراجعة الفلسفة الإدارية من الأساس… من التركيز على “عدد الإجراءات” إلى التركيز على “قيمة الخدمة”، ومن “الموظف المقيّد بالنماذج” إلى “صانع الحلول”، ومن “الأنظمة المغلقة” إلى “حكومة استباقية متصلة بالواقع والمستقبل”.

نحو نظام حكومي متجدد

تُظهر مبادرة تصفير البيروقراطية أن معيار التقدّم الحكومي اليوم لا يُقاس بحجم الهياكل أو مقدار الإنفاق، بل بمدى قدرتها على تقليل الزمن والتكلفة بين طلب الخدمة وتحقيق أثرها. وعندما تتوحد السجلات على منصة بيانات واحدة، ويتكامل الذكاء الاصطناعي مع قرارات التشغيل، ويُفعَّل التقييم المستمر كآلية إلزامية لا خيارية، يتحوّل دور الجهات إلى إنتاج قيمة ملموسة بدلاً من تسيير إجراءات متراكمة. بهذه الطريقة تنتقل الحكومة من مراقبة الامتثال إلى تحفيز الابتكار، ويُستبدل التعقيد الإداري بدورة تحسين لا تنقطع، يكون فيها رضا المتعامل متغيراً قابلاً للقياس مثل أي مؤشر مالي أو اقتصادي. إن إزالة الحواجز الورقية اليوم ليست نهاية مسار التنظيم، بل استثماراً طويل الأجل في اقتصاد المعرفة يعيد توجيه طاقة المجتمع نحو التجربة الحكومية الأسرع والأكثر شفافية.