الأربعاء, 09 يوليو, 2025


دبي والأداء الحكومي المتميز…رافعة الاقتصاد والشفافية
en
يوليو, 2025
دبي والأداء الحكومي المتميز

إذا كانت المدن تتشابه في الأبراج وتتنافس في البنية التحتية، فإن ما يميّز مدينة عن أخرى هو ما يُمكن وصفه بـ “العقل الجمعي” الذي يحكم مؤسساتها. في أواخر تسعينيات القرن العشرين، بدا لنا العالم وقد دخل عصر ما بعد البيروقراطية وصارت القيمة تُقاس بالزمن المستهلك لإتمام الخدمة، وصار المواطن مساهماً في صناعة القرار لا متلقياً له فقط.

منذ ذلك الحين، تبنّت دبي رؤية إدارية واجتماعية مختلفة، تؤمن أن التقدّم لا يعتمد فقط على الموارد، بل على التزام حكومي يعكس طموحات الناس. ومن هذا المبدأ، انطلق في عام 1997 “برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز”، الذي استبدل البيروقراطية بالمؤشرات، وطوابير الانتظار بالخدمات الرقمية، لتصبح الخدمة في متناول يد كل مستخدم للهاتف الذكي. هذه الرؤية لم تكن ردّة فعل على أزمة، بل خطة استباقية لتحويل التحديات إلى فرص، وجعل “المستحيل” نقطة بداية لا نهاية.

جذور الفكرة وتحوّل الجودة من قطاع خاص إلى جهاز الدولة

برزت جذور فكرة برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز في سياق انتقلت فيه دبي من مرحلة ترسيخ جودة الأداء في القطاع الخاص إلى إعادة ابتكار الجهاز الحكومي ذاته. فقد شهدت تسعينيات القرن الماضي تصاعد موجة العولمة وتحرير الأسواق، وهو ما دفع دبي مبكراً لإطلاق “جائزة دبي للجودة” عام 1994 للقطاع الخاص، في محاولة لترسيخ معايير التميز ضمن المؤسسات التجارية والصناعية. غير أن القيادة وفي مقدمتها الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أدركت أن الاكتفاء بتحفيز القطاع الخاص لن يصنع حضارة ولا مجتمعاً متماسكاً، وأن الدولة إن أرادت قيادة المستقبل، فعليها أن تفرض على أجهزتها ذاتها ما تطلبه من القطاع الخاص، عندها فقط يتحول القطاع الحكومي إلى قاطرة للتغيير وليس مجرد جهة رقابية أو منفذة.

وفي سبتمبر 1997 صدر مرسوم بتأسيس البرنامج ليكون أول إطار مؤسسي لقياس التميز الحكومي في العالم العربي، وجاءت الخطوة بعد دراسة مستفيضة لأبرز النماذج الدولية، تحديداً “نموذج مالكوم بالدريج” الأمريكي للتميز (Malcolm Baldrige National Quality Award)  و”نموذج المؤسسة الأوروبية لإدارة الجودة ” (EFQM Excellence Model) ، وكلاهما اعتمد على مؤشرات صارمة لقياس كفاءة وفعالية المؤسسات، إلا أن فريق العمل في دبي رأى ضرورة تجاوز مجرد الاستنساخ، ففي حين ركزت تلك النماذج الغربية على النتائج الإدارية والتشغيلية، قررت دبي إدماج بُعد جديد غير مسبوق في المنطقة… “سعادة المتعامل”، بوصفها مؤشراً أخلاقياً واقتصادياً على حد سواء .

هذا الانحياز الجريء نحو المركزية الإنسانية في العمل الحكومي لم يكن ترفاً، بل استجابة لوعي فلسفي متقدم بأن الجهاز الإداري مهما بلغ من التنظيم والدقة يبقى ناقصاً إن لم يكن هدفه الأسمى تحسين جودة الحياة. وهكذا تحولت مؤشرات الرضا الشعبي إلى مرجعية مركزية لكل تقييم، بل أصبح الموظف الحكومي في موقع المحاسَب أمام الناس لا العكس. وخرج التميّز الحكومي من دائرة الجداول والتقارير إلى الفضاء العام حيث يُقاس النجاح بتأثيره الفعلي على يوميات المواطن والمقيم.

أصبح التميز ليس مجرد تصنيف رقمي، بل قيمة حضارية ومعيار إنساني، كما أن البرنامج ربط بين الرضا المجتمعي وبين المنظومة المالية والأخلاقية، فصار رضا المتعاملين مؤشراً يستخدم في تخصيص الميزانيات وترقية القيادات، ومؤشراً لا يقل أهمية عن أي مؤشر مالي أو تشغيلي، في سابقة لم تعرفها الإدارة الحكومية التقليدية في المنطقة من قبل .

هذا النموذج، الذي بدأ من دبي، ألهم العديد من حكومات الخليج والمنطقة العربية في إعادة تعريف العلاقة بين الحكومة والمجتمع. إذ لم تعد معايير النجاح تقتصر على الأرقام بل أصبح الإنسان هو المعيار، وأصبحت “سعادة المتعامل” الركيزة المركزية لأي إصلاح إداري أو اقتصادي حقيقي. وفي ضوء هذا التحول الجوهري انتقل برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز من مشروع تنظيمي إلى حركة اجتماعية وثقافية تهدف لزرع قيم المسؤولية والشراكة والابتكار في عمق الوعي العام، مؤسساً بذلك لحقبة جديدة في إدارة الدولة، حيث تتحول الجودة من أداة تقنية إلى قيمة وطنية حية ومتجددة.

إعلان الجهات الأسوأ أمام الملأ – الدورة الأولى

كان مساء ذلك اليوم في بيت الشيخ سعيد بن مكتوم في الشندغة مساءً صنع تحولاً ثقافياً لا رجعة فيه في الوعي الحكومي والمجتمعي. هناك احتشد مسؤولو دبي، وأعينهم تترقب مراسم تقليدية لتكريم المتميزين كما جرت العادة في بيئة إدارية تميل إلى المجاملة وتجنُّب المواجهة… إلا أن الشيخ محمد بن راشد، قلب المشهد رأساً على عقب عندما صعد إلى المنصة بعد توزيع الجوائز، ليعلن لأول مرة في تاريخ الإدارات الحكومية العربية، الجهات الحكومية الأقل أداءً علناً أمام الحضور.

يروي معالي محمد القرقاوي في شهادته حول تلك اللحظة المصيرية أنها كانت ” ثورة إدارية في دبي”… فقد سقط القناع عن ثقافة التحايل على المؤشرات، وأصبح كل مدير مطالباً منذ تلك اللحظة بأن يتعامل مع “الشفافية والمساءلة” كشرط وجودي لاستمرار عمله، لا مجرد شعار إداري متداول في الدوائر المغلقة.

وقد تسببت هذه الصدمة في إحداث ما يشبه الهزة النفسية الجماعية داخل الجهاز الحكومي. فعلى عكس ما يحدث عادة من إنكار أو دفاع عن الذات في أعقاب النقد العلني، تكشف الوثائق الداخلية وتقارير فرق العمل في مجلس دبي التنفيذي، عن ظاهرة غير مسبوقة، وهي تضاعف عدد طلبات التدريب على معايير الجودة خلال العام التالي. حيث سعى عشرات المسؤولين وفرق العمل لإعادة تأهيل أنفسهم ومراجعة آليات عملهم وفقاً لمعايير دقيقة وعالمية، بهدف عدم تكرار الظهور في قائمة الأداء المتدني.

كانت هذه اللحظة هي الشرارة الأولى لانتشار مفهوم “المتسوق السري” في الجهاز الحكومي بدبي، إذ جرى تبني آليات محايدة لرصد الخدمة الحكومية من منظور المتعامل الحقيقي وليس عبر تقارير الموظفين فقط. وأصبح من الطبيعي أن يزور جهة حكومية أحد موظفيها أو متعامليها الميدانيين دون إعلان مسبق، لرصد جودة الخدمة بشكل مباشر وغير متحيز. نقلة غيرت مفهوم الرقابة من الداخل إلى الخارج، وحوّلت التركيز من استرضاء الرؤساء إلى خدمة الناس فعلاً.

هذه الثورة الإدارية لم تكن بلا معارضة أو ارتباك، بل واجهها بعض المسؤولين التقليديين بشيء من القلق وربما الخوف من الفضح العلني. إلا أن تصميم القيادة على ربط التقييم بالعلنية وضع الجميع أمام مسؤولية فردية وجماعية… من لا يتطور لن يجد لنفسه مكاناً في منظومة ترفع الشفافية إلى مرتبة القيمة الأخلاقية.

ولعل أحد أهم آثار هذه اللحظة كما تشير إليه الدراسات اللاحقة وتقارير مؤسسات دولية مثل البنك الدولي ومنظمة الأمم المتحدة، أن دبي تمكنت في أقل من عقد من رفع مؤشرات رضا المتعاملين إلى مصاف الدول الأكثر تنافسية، وتحويل الجهاز الحكومي إلى بيئة ديناميكية تستمد شرعيتها من قدرتها على مواجهة أخطائها علناً وتصحيحها بشجاعة.

وهكذا لم يعد الإعلان عن الجهات الأسوأ مجرد حدث استثنائي في احتفال رسمي، بل صار تقليداً مؤسسياً عابراً للسنوات، يعيد تذكير الجميع بأن الشفافية والمساءلة هما وقود النهضة الحقيقية، وأن قيمة الموظف لا تقاس فقط بما ينجزه بل بمدى استعداده للاعتراف بالخلل والعمل على إصلاحه، وهو ما عبّر عنه الشيخ محمد حين قال لاحقًا: “التميز رحلة لا تنتهي، وكل نجاح هو بداية لسؤال أكبر: ماذا بعد؟”.

معايير التميّز كفكر يتجاوز القوائم

لم يكن برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز مجرد نظام للجوائز أو تصنيفات سنوية عابرة، بل كان مشروعاً فكرياً شاملاً أعاد تعريف معنى ومعايير الجودة الحكومية… فعلى امتداد أكثر من ربع قرن، اختبر البرنامج جدوى معاييره السبعة المترابطة: القيادة، الاستراتيجية، تنمية الموارد البشرية، الشراكات، الابتكار، تجربة المتعامل، ونتائج الأداء. هذه المحاور لم تكن مجرد بنود تنظيمية بل منظومة فلسفية أرست التوازن بين ما يسميه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس “العقل الأداتي” الذي يركز على الكفاءة والإنجاز، و”العقل القيمي” الذي يجعل الإنسان غاية لا وسيلة، وتحوّل البرنامج بذلك من أداة تقييم إلى حركة فكرية تنزع إلى إعادة صياغة مفهوم الوظيفة العامة ذاتها.

تجلى هذا التحول في طريقة رصد مؤشرات السعادة والرضا، التي تحوّلت من أرقام صماء إلى مرجعيات مركزية في صنع القرار وإعادة هندسة السياسات، فقد بلغ متوسط “سعادة العملاء” مع الخدمات الحكومية في دبي 93.8% عام 2024، وفق نتائج تقرير مؤشر السعادة الرسمي الصادر عن “دبي الرقمية” وهو رقم لم يتحقق في أي مدينة عربية أخرى، ويتجاوز أحياناً نظراء عالميين مثل سنغافورة أو كوبنهاغن، وبلغت درجة رضا الموظفين الحكوميين 86.7%، في بيئة عمل تضع تطوير الكفاءات والتحفيز المستدام في صدارة أولوياتها، بحسب إحصائيات دائرة الموارد البشرية لحكومة دبي (HR Dubai).

أما مقياس “المتسوق السري”  فقد وصل إلى 95.8% عام 2024، حيث أصبحت الجهة الحكومية تراقَب وتُقَيَّم من منظور المتعامل الواقعي لا التقارير المكتبية، وأضف إلى ذلك أن عدد الخدمات الرقمية الحكومية التي تقيَّم بشكل لحظي من قبل المستخدمين تجاوز 1,200 خدمة، مع أكثر من 100 ألف تقييم شهري يُؤخذ به عند مراجعة سياسات الجهات، ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة للحكومة الإلكترونية 2022، تصدرت دبي المدن العربية واحتلت مركزاً متقدماً عالمياً في مؤشرات “الابتكار في تقديم الخدمات” و”الشفافية الرقمية”

وهذه الأرقام لم تعد مجرد شعارات إدارية أو ترويجية، بل انعكست على عمق العلاقة بين الحكومة والمجتمع. فاليوم لم يعد المواطن أو المقيم “مراجعاً” ينتظر ختم أوراقه في ممرات البيروقراطية، بل بات شريكاً فعلياً يقيّم الخدمة في لحظة استلامها، وتُعتمد ملاحظاته في تصحيح الأخطاء وتطوير الحلول، الأمر الذي قاد إلى رفع معدل سرعة الاستجابة للشكاوى والمعاملات إلى أقل من يومين في معظم الجهات، وفق بيانات مركز نموذج دبي (Dubai Model Centre) هذه الثورة الرقمية والتفاعلية جعلت من برنامج التميز الحكومي أداة دائمة للتحسين والتصحيح، وأثبتت أن فلسفة الدمج بين العقل الأداتي والعقل القيمي ليست مجرد تنظير أكاديمي، بل رهان عملي ناجح في صنع منظومة حكومية إنسانية، ديناميكية، ومتطورة باستمرار.

التميّز استثمار عام: الأثر الاقتصادي

لم يعد التميز الحكومي في دبي مجرد إصلاح إداري؛ بل غدا استثماراً عاماً يعيد تشكيل الاقتصاد المحلي، فمع اكتمال استراتيجية دبي اللاورقية، خفضت الحكومة استهلاكها بأكثر من336  مليون ورقة، ووفرت 14 مليون ساعة عمل، و1.3 مليار درهم في التكاليف سنوياً، وعلى صعيد التحول الرقمي، حافظت الإمارات على المركز 13 عالمياً والأول عربياً في مؤشر الأمم المتحدة لتنمية الحكومة الرقمية لعام 2022، وهو تقدم يرتبط مباشرة باتساع تغطية الخدمات الإلكترونية

وفي بيئة الأعمال، يُظهر تقرير Doing Business 2020 أن تأسيس شركة بالدولة يحتاج 6.5  إجراء بمتوسط 8.5 أيام، وهو من أسرع المعدلات عالمياً، كما أن جاذبية دبي الاستثمارية انعكست في تدفقات رأسمالية بلغت نحو 39.3 مليار درهم من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2023، مع احتفاظها بالمركز الأول عالمياً في عدد مشاريع الـ Greenfield للعام الثالث على التوالي.

كما يُبيّن بحث صندوق النقد الدولي حول التحول الرقمي في دول مجلس التعاون الخليجي أن رقمنة الخدمات الحكومية “خفضت كلفة المعاملات كثيراً ورفعت الإنتاجية” في المنطقة، مع إبراز الإمارات كدارسة حالة متقدمة. وتشير فايننشال تايمز إلى أن هذا الزخم الرقمي جعل دبي إحدى أفضل البيئات العالمية لنمو الشركات الناشئة اعتماداً على سرعة الإجراءات وشفافيتها، وبهذه المؤشرات الموثقة تتجاوز دبي حدود الإدارة السلسة إلى دور بنيوي يحفّز النمو ويعزز ثقة الأسواق الدولية، ما يرسخ التميز الحكومي كرافعة حقيقية لاقتصاد المستقبل في الإمارة والدولة.

مشاريع تُقاس بالأثر… نماذج مكرَّمة في سجل التميّز الحكومي

في دوراته الأخيرة، كرَّم برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز مجموعة من المبادرات الحكومية التي أصبحت تُعد نماذج يُحتذى بها لما تتميز به من تأثير ملموس ونتائج قابلة للقياس، أبرزها:

  • مبادرة “هلا” للأجرة الذكية وهي الشراكة بين هيئة الطرق والمواصلات وشركة “كريم” التي دمجت أكثر من 12 ألف سيارة أجرة في منصة موحدة للحجز الرقمي، ما خفض زمن انتظار الراكب إلى أقل من 3 دقائق، ونالت جائزة “أفضل مبادرة مشتركة” في دورة ‎2024.
  • محطة الشرطة الذكية (SPS) التابعة لشرطة دبي، التي تتيح 46 خدمة جنائية ومرورية على مدار الساعة بلا موظفين، وكانت أحد العوامل الرئيسة وراء فوز شرطة دبي بلقب أكثر الجهات جاهزية للمستقبل.
  • نظام تنبيه ارتفاع الاستهلاك من هيئة كهرباء ومياه دبي، الذي يرسل إشعارات فورية عند رصد استهلاك غير معتاد للكهرباء أو المياه؛ وقد أسهم في تفادي 1.3 مليون تسرّب واختزال 218 ألف طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون.
  • مشروع Advance Ruling في جمارك دبي، أول خدمة عربية لإصدار قرارات مسبقة بشأن التعرفة والمنشأ، خفّض زمن التخليص بنسبة 60 %، وعُرض ضمن سلسلة أفضل الممارسات الحكومية 2025 تقديراً لأثره على شفافية التجارة.
  • مبادرة Next Generation Airspace لخدمات الملاحة الجوية بدبي (DANS)، التي أعادت تصميم مسارات الأجواء لزيادة السعة بنسبة 18 % وتقليص الوقود المحترق في كل رحلة بنحو 5 %، ونالت إشادة برنامج التميز لابتكارها المستند إلى الذكاء الاصطناعي.
  • حركة Dubai Can – Refill for Life من دائرة الاقتصاد والسياحة، التي نشرت أكثر من 200 نافورة مياه شرب عامة وخفَّضت استهلاك قوارير البلاستيك أحادية الاستخدام بأكثر من 30 مليون عبوة خلال عامين، ما جعلها أيقونة الاستدامة في سجل الجوائز.

 إعادةُ صياغة العقد الاجتماعي والسياسي

إن التحوّل الذي قادته دبي في مجال الإفصاح والشفافية، عبر إدراج الجهات الحكومية المتأخرة علناً ثم نشر مؤشرات الأداء السنوية على الملأ، لم يغيّر فقط علاقة المواطن بالحكومة، بل أعاد رسم دور الدولة نفسه… ففي حين كان النموذج التقليدي يرى في الدولة “راعياً أبوياً” يفرض الوصاية ويرسم السياسات بمعزل عن المجتمع، أصبحت دبي نموذجاً لـ “دولة الخدمات” التي تقف على منصة التقييم العام وتخضع للمساءلة المستمرة، مثلها مثل أي مؤسسة في القطاع الخاص. هذا التحول الفلسفي العميق جعل من الأداء المؤسسي قضية رأي عام لا شأناً بيروقراطياً مغلقا.

تدريجياً، عززت هذه السياسة ثقة المجتمع في آليات المساءلة، وأتاحت للمواطن والمقيم، للمرة الأولى في المنطقة متابعة أداء الجهات الحكومية بصورة علنية، ومعرفة أين تتفوق وأين تتأخر، وما هي الخطط التصحيحية المطروحة… هذا الانفتاح لم يمر دون انتباه الإعلام الدولي، فقد وصفت كبريات الصحف والمراكز البحثية دبي بأنها “أول مختبر عربي للحوكمة القائمة على البيانات”، حيث أصبحت مؤشرات الرضا والأداء منصة لإدارة الموارد وتصميم السياسات، لا مجرد أرقام في التقارير الرسمية، وقد لاقى هذا النهج إشادة من منظمات دولية مثل البنك الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، التي أشارت في تقاريرها إلى أن هذا المستوى من الشفافية والتنافسية العلنية يضع دبي ضمن المدن الأكثر تقدماً في تحديث الإدارة الحكومية، ودعم ثقافة الإصلاح المستدام.

التكنولوجيا كعصب جديد للتميّز

لم يَتوقّف التطور عند قياس الأداء التقليدي. إذ أطلقت الإمارة منصة «Excellence 2.0» التي تربط تمويل المشاريع بنتائج فورية تُستمد من تعاملات آنية، ما يعني أنّ زمن التقرير السنوي سيتحوّل إلى عرضٍ تحليلِي لحظي. يتزامن ذلك مع تبنّي خوارزميات الذكاء الاصطناعي التوليدي لتحليل شكاوى الجمهور واقتراح الحلول قبل تصعيدها إلى مدير الدائرة. وبهذا يتحقق ما يسميه خبراء الإدارة «الإغلاق الدائري لدورة الخدمة»، حيث ينتقل المتعامل من مرحلة الطلب إلى الرضا في مسارٍ رقمي واحد.

تصدير النموذج: من محلي إلى عالمي

منذ عام 2015، لم تعد تجربة دبي للأداء الحكومي المتميز محصورة بالحدود المحلية، بل تحولت تدريجياً إلى نموذج يُحتذى في العديد من العواصم حول العالم، مع توقيع سلسلة من مذكرات التفاهم مع حكومات طامحة لتبني معايير الجودة والخدمات الذكية… فقد طبقت أوزبكستان، إلى جانب مدن آسيوية أخرى، ركائز البرنامج الإماراتي بإشراف مباشر من فريق معالي محمد القرقاوي، ليشمل ذلك حزماً تدريبية متقدمة، وتفعيل آلية “المتسوق السري”، ووضع مؤشرات دقيقة لقياس سعادة المتعاملين. ويرى بعض الأكاديميين في هذا التمدد شكلاً جديداً من “الدبلوماسية الإدارية” أو القوة الناعمة، حيث تتحول الخبرة التنظيمية الإماراتية إلى أداة تأثير وبناء شراكات دولية على أسس حديثة تتجاوز النفط والتجارة التقليدية.

ومع ذلك، لا تخلو هذه التجربة من تحديات متنامية مع نضوج النموذج. إذ يحذر بعض خبراء الإدارة من خطر “إرهاق الجوائز”، حين تتحول المنافسة المؤسسية إلى غاية في ذاتها بدلاً من أن تظل أداة لخدمة المجتمع وتطوير جودة الحياة. كذلك، تشكل ثورة البيانات الضخمة وتطبيقات الذكاء الاصطناعي تحديات غير مسبوقة تتعلق بالخصوصية والتحيز الخوارزمي، مما يفرض على النظم الإدارية الحكومية إعادة النظر في كيفية مكافأة الدوائر…هل تعطى الأفضلية لتلك التي تجمع بيانات أكثر أم التي تضمن جودة الاستخدام وحقوق الأفراد؟ أسئلة تشغل اليوم صناع القرار وخبراء الحوكمة حول العالم، وسط دعوات لدمج معايير الشفافية الأخلاقية وحماية الخصوصية ضمن فلسفة التميز المستقبلي.

ختاماً، لم يكن برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز مجرد مبادرة إدارية أو سلسلة جوائز احتفالية، بل كان نقطة تحول فلسفية في كيفية تصور الدولة لعلاقتها مع مجتمعها ومؤسساتها، بل وحتى مع نفسها ككائن إداري ديناميكي. نجحت دبي في تحويل الشفافية من حدث موسمي إلى ممارسة مؤسسية يومية، وصنعت من المساءلة قيمة ثقافية تعيد تشكيل عقل المسؤول والمواطن على حد سواء، جاعلة من سؤال “لم لا؟” محفزاً مفتوحاً لمزيد من التجاوز والتجريب البنّاء، بعيداً عن الجمود أو الاكتفاء بما تحقق.

وتتجلى رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد في هذا النهج حين قال: “نحن لا نرضى بغير المركز الأول، لأن المركز الأول هو أقل ما يستحقه شعب الإمارات”…هذه المقولة ليست شعاراً دعائياً، بل فلسفة عملية ترسخت عبر كل مراحل التحول الإداري في الإمارة، مؤسِّسة لقناعة راسخة بأن المركز الأول ليس امتيازاً جغرافياً، بل ثمرة منظومة مؤسساتية قائمة على التعلم المستمر والانفتاح على النقد والمراجعة.

في نهاية المطاف، يبقى برنامج دبي للأداء الحكومي المتميز شاهداً على أن بناء دولة المستقبل يبدأ من لحظة الشجاعة في طرح الأسئلة الصعبة، والاستعداد الدائم لتحويل كل تحدٍّ إلى فرصة، وكل إخفاق إلى خطوة أخرى على درب التميز والتجديد.