الإثنين, 21 يوليو, 2025


مدينة دبي الأكاديمية مستقبل المعرفة
تقرير حصري يوليو, 2025
صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

أنشئت مدينة دبي الأكاديمية العالمية كحاضنة تعليمية كبرى ومنطقة حرة ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى تحويل اقتصاد دبي إلى اقتصاد قائم على المعرفة. ففي مطلع الألفية الثالثة، شكّلت تجربة “قرية دبي للمعرفة” نموذجاً أولياً لمجمع تعليمي وتدريبي يسهم في تطوير الكفاءات وتوطين المهارات. ومع نجاح هذه التجربة، برزت الحاجة إلى مشروع أوسع نطاقاً يُعنى بالتعليم العالي؛ فكانت المدينة الأكاديمية.

البدايات والرؤية

في مايو 2006، اطّلع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بصفته حاكماً لإمارة دبي، على النموذج الأولي لمدينة دبي الأكاديمية العالمية، قبل الإطلاق الرسمي للمدينة والاعتراف بها كمدينة جامعية رسمياً في 2007. تأسست المدينة تحت إدارة مجموعة تيكوم، الذراع الاستثماري لشركة دبي القابضة، أكبر شركة وطنية في دبي. منذ عام 2000، توسعت دبي بإنشاء المدن التخصصية، مثل مدينتي دبي للإنترنت والإعلام وقرية المعرفة وغيرها، وكان لدبي القابضة برئاسة محمد القرقاوي دوراً محورياً واستراتيجية واضحة في تأسيسها وإدارتها.

أوكَل مؤسسو مدينة دبي الأكاديمية العالمية وضع الأطر التنظيمية والإدارية للمنطقة الحرة إلى سلطة دبي للتنمية (Dubai Development Authority)، وهي الجهة الحكومية المخوّلة بتنظيم المناطق الحرة الإبداعية والتعليمية في الإمارة، بهدف توفير بيئة أعمال جاذبة وتمويل تشغيلي سهل للمؤسسات الأكاديمية. شمل الدعم الحكومي تبسيط إجراءات التأسيس وتوفير إعفاءات ضريبية وحوافز استثمارية، مثل الإعفاء من ضريبة الشركات والملكية الكاملة للأرباح. وقد عُقدت شراكات بين الحكومة وهيئات رسمية للدعم الأكاديمي، في تأكيد على أن إنشاء مثل هذه الكتل المعرفية كان ضمن خطط القيادة لصهر العلم مع التنمية. وبرزت مدينة دبي الأكاديمية العالمية لتجسّد هذا التوجّه بوصفها منصة تجمع نخبة الجامعات الدولية تحت سقفٍ واحد.

وخلال إحدى زياراته التفقدية للجامعات الوطنية، قال الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: “”نحن نبني البشر قبل بناء الحجر، فالإنسان هو من يبني ويعلي البنيان، ما نفع الحجر إذا كان ساكنه جاهلا لا يواكب التطور العلمي ولا يستفيد منه في تطوير قدراته ومعارفه وخبراته”.

لاقت فكرة المدينة الأكاديمية صدى داخل دبي، باعتبارها امتداداً طبيعياً لرؤية الإمارات في بناء “رأس المال البشري”. إذ وجدت في دبي مناخاً ملائماً لاستقبال الجامعات العالمية عبر نظام التعليم عبر الحدود (TNE) ، حيث وفرت المدينة بيئة مغرية للجامعات الأجنبية لفتح فروعها فيها. واستهدفت المدينة الأكاديمية تحقيق التكامل المعرفي والتفاعلية بين الطلاب والشركات والمؤسسات البحثية، في إطار مبادرة جامعة،صناعة،حكومة لتحقيق التنمية المستدامة.

صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

مراحل التطور والتوسع

انطلقت مدينة دبي الأكاديمية العالمية مزودةً بأرضية صلبة من البنية التحتية والتخطيط. كما شرعت الحكومة في تنفيذ توسعات متدرجة تضمنت بناء مرافق تعليمية وإسكان للطلبة، إضافة إلى مراكز بحثية وحاضنات تقنية. وبينما كان الطور الأول يضم عدداً محدوداً من الشركاء الأكاديميين، شهدت السنوات التالية انتعاشاً ملحوظاً في التوسع. فبحلول عام 2012، اكتملت مرحلة توسيع الحرم الجامعي لتغطي مساحة تزيد على 129 مليون قدم مربع (حوالي 12 كم)، مهيئةً بذلك بنية متكاملة لعدد أكبر من المؤسسات والطلبة. وموّلت الدولة المرحلة الأولى بتكلفة تقدّر بنحو 200 مليون درهم لضمان جودة مرافقها التعليمية.

في الذكرى العاشرة لتأسيسها عام 2017، حققت المدينة نقلة نوعية أخرى بإعلان انضمام جامعات جديدة. فقد أعلنت جامعتا كيرتن دبي وجامعة الإمارات للطيران إنشاء فروع دائمة لهما في المدينة، وفي تلك السنوات بدأت أيضاً وزارة التعليم العالي بالموافقة على إنشاء ما يزيد على مئتي برنامج بكالوريوس ودراسات عليا ضمن مؤسسات المدينة، مع إيلاء اهتمام خاص لمجالات تقنية المستقبل والابتكار. وقد مثّلت هذه الخطوات منصة لتجاوز الأهداف الأولية. ومع تنامي عدد الجامعات المطروحة في المدينة، أصبح من المتوقع أن تستوعب أكاديميات جديدة، مثل “الجامعة الأمريكية في دبي” وفرع جامعة “يونايتد تايلرز – لندن” وغيرها، الأمر الذي من شأنه أن يعزّز النفوذ الأكاديمي العالمي لدبي.

على مستوى البنية الخدمية المساندة للمنظومة الأكاديمية، صُمِّمت مدينة دبي الأكاديمية العالمية لتأمين بيئة معيشية وبحثية متكاملة تمكّن أكثر من 27 ألف طالب من التركيز على الدراسة بلا أعباء لوجستية إضافية. إلى جانب السكن الجامعي، شيدت عدد من المجمعات الداخلية التي تؤمّن طاقة استيعابية تصل إلى عدة آلاف من الأسرّة، يتقدمها مجمع The Myriad  الذي يوفّر وحده نحو 2,250 سريراً بمعايير ضيافة وسلامة دولية، إلى جانب مجمّعات KSK Homes  وخيارات أخرى معتمدة من سلطة دبي للتنمية. وترتبط هذه المنشآت بمنصة “شبكة الإسكان الجامعي” التي تتعاون مع ملاك العقارات المجاورة لتقديم وحدات مخفضة الإيجار ضمن محيط لا يتجاوز خمس عشرة دقيقة من الحرم، ما يخلق منظومة سكن مرنة ومتنوعة تستجيب لمستويات الدخل المختلفة.

وفي ميدان البحث والتطوير، تحتضن المدينة ثلاثة مراكز ابتكار تغطي حقول تكنولوجيا المعلومات والطاقة المتجددة والزراعة المائية. هذه المراكز مجهزة بمختبرات بناء النماذج وحاضنات أعمال، وتعمل بتنسيق وثيق مع 27 كلية وجامعة و500 برنامج أكاديمي، لتختصر المسافة بين مشروع التخرّج وفرص التمويل والاستثمار، وتحوّل المعرفة إلى قوة إنتاجية مباشرة. بهذا تتخطى مدينة دبي الأكاديمية دورها التقليدي كمجمّع جامعي، لتصبح عقدة حيوية في سلسلة اقتصاد الابتكار الذي يستند إليه التحوّل المعرفي في دبي.

وعلى مدار ما يقارب عقدين من الزمن، أصبحت مدينة دبي الأكاديمية ركناً أساسياً في قطاع التعليم بدبي والإمارات. وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أنها تضم اليوم (عام 2025) أكثر من 27 جامعة وكلية ومؤسسة تعليمية. وتحتضن هذه المؤسسات نحو 27,500 طالب وطالبة من أكثر من 150 جنسية مختلفة، مما يجعل من المدينة مساحة تعليمية دولية بكل المقاييس.

تتجلى ثمار هذه الجهود على مستوى المؤشرات الدولية، إذ أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي للتنافسية (2014-2015) إلى صعود دولة الإمارات إلى المرتبة السادسة عالمياً في محور “التعليم العالي والتدريب”، وهو تقدّم مرتبط مباشرةً بالزخم الذي أوجدته مدينة دبي الأكاديمية وقرية المعرفة في استقطاب فروع الجامعات الدولية.

كما تُظهر أرقام من جهات مستقلة النمو المستمر في قطاع التعليم بدبي الذي تترابط مع الأكاديمية. فقد أشارت مؤسسة أبحاث “ذي باي سانفرانسيسكو” عام 2024 إلى أن دبي تستضيف اليوم 57 مؤسسة تعليمية دولية، معظمها فروع جامعات أجنبية داخل المناطق الحرة، خصوصاً في مجمعي “قرية المعرفة” و”الأكاديمية العالمية”. وتشير تقارير هيئة المعرفة والتنمية البشرية إلى أنه بحلول عام 2040 قد يتضاعف عدد الملتحقين بالتعليم العالي مقارنة بالوضع الراهن. ونظراً لهذا التوقع، يرى المسؤولون حاجة المدينة إلى إنشاء 10 إلى 15 فرعاً جامعياً إضافياً خلال العقدين القادمين، لتلبية الطلب المتنامي. ويُترجم هذا الاهتمام بالتعليم إلى مؤشرات اقتصادية؛ فالقطاع التعليمي في الإمارات يمثل اليوم شريحة متنامية من الناتج المحلي الإجمالي، وتُمنح المشاريع المعرفية دعماً حكومياً مستداماً.

على الصعيد المحلي، لوحظ أن نسبة الإماراتيين في التعليم الخاص بدأ بالارتفاع، ففي عام 2017 وصلت نسبة الإماراتيين من الطلبة في مناطق دبي التعليمية الحرة إلى أكثر من 30%، وذلك بعد اعتماد شهادات الجامعات الحرة رسمياً. ويعكس هذا التحول اهتمام الدولة بإتاحة التعليم العالي للطلاب المحليين ضمن جامعات عالمية. وبالرغم من أن البيانات التفصيلية لسنوات الدراسة الأخيرة غير منشورة علناً، إلا أن المعالم تبين أن الأكاديمية قد حافظت على معدل تشغيلي عالٍ وسط هذه التغيرات، مستفيدةً من جودة برامجها وشراكاتها الأكاديمية. وتُضاف إلى ذلك المراكز الابتكارية الثلاث التي تستقطب المواهب وتفرز ابتكارات تكنولوجية، حيث تخدم نخبة من الباحثين والطلبة بحوافز تنافسية.

مدينة دبي الأكاديمية العالمية

الدور الاستراتيجي والآفاق المستقبلية

تكتسب مدينة دبي الأكاديمية العالمية أهمية استراتيجية ضمن رؤية الإمارات للتنمية. فهي ليست مجرد تجمع جامعي، بل نموذج حضري متكامل لاقتصاد المعرفة يهدف إلى دمج التعليم مع البحوث والابتكار. فقد صرح معالي محمد القرقاوي بأن مثل هذه المشاريع “يعكس إيمان دولتنا وقيادتنا بالدور الحيوي الذي يلعبه التعليم لنهوض المجتمعات”، ما يوضح رسوخ الإيمان الوطني بأن استثمار الفرد والعلم هو صمام أمان المستقبل. وفي هذا الإطار، تسعى المدينة إلى الربط بين التعليم واحتياجات سوق العمل، فالكثير من برامجها تم تصميمها بالتشاور مع قطاعات صناعية مثل السياحة والطيران والتكنولوجيا المالية، لتعزيز التحصيل المعرفي وربطه بالمسارات المهنية.

تُعدّ مدينة دبي الأكاديمية العالمية نموذجاً ناجحاً للتعليم العابر للحدود في الشرق الأوسط. ففي عام 2014 كانت دولة الإمارات مقراً لـ 35 فرعاً لجامعات دولية، وهو أكبر عدد لفروع مؤسسات تعليم عالٍ في مكان واحد في العالم آنذاك؛ 26 من هذه الفروع في دبي وحدها. ومن أبرز هذه الفروع جامعة ميدلسكس لندن التي افتتحت حرمها في دبي عام 2005، وتضم اليوم أكثر من 6,300 طالب يمثلون ما يزيد على 120 جنسية. واستمر الزخم مع افتتاح جامعة برمنغهام فرعها بدبي عام 2018 داخل مدينة دبي الأكاديمية؛ إذ يستوعب الحرم حالياً نحو 2,900 طالب، ضمن بيئة تعليمية تحتضن حوالي 26-27 مؤسسة جامعية معتمدة. هذا التوسع المنتظم يؤكد ثقة الجامعات العالمية في البنية التحتية والنظام التنظيمي الذي أرسته الإمارة، ويعزّز موقع دبي بوصفها منصة إقليمية رائدة للتعليم العالي.

على المستوى الوطني، يساعد وجود المدينة على تنويع الاقتصاد. فهي تخلق فرص عمل لمئات المدرسين والباحثين المحليين، وتؤدي إلى تدفق الأموال من رسوم التعليم وصيانة البنى التحتية ومنشآت السكن الطلابي. ولعل انعكاسات ذلك ظهرت مؤخراً في الاهتمام المتزايد بالبحث العلمي، وأظهر تقرير Building the Future: Advancing Research and Innovation Capabilities across the GCC   الصادر عن PwC  في 2024 أن المنشورات البحثية الصادرة من دولة الإمارات نمت بنحو ستة عشر ضعفاً خلال العقدين الماضيين، وهو تحسّن يعكس جزئياً البيئة الأكاديمية النشطة التي ترسخها مؤسسات مثل تلك القائمة في مدينة دبي الأكاديمية العالمية.

ملامح المستقبل

تدرس الجهات المسؤولة إدخال تطبيقات الذكاء الاصطناعي والتعلم الإلكتروني ضمن منظومة المدينة، لمواكبة مستجدات التعليم الحديث. كما تبدي اهتماماً بتوسيع حاضنات التكنولوجيا في المدينة لجذب المزيد من شركات التكنولوجيا وشركات الأبحاث التي توفر فرص تدريب للطلبة. ويرى اقتصاديون أن نجاح هذه الجهود مُرتبط بالإبقاء على سمعة التعليم النوعي في المدينة والحفاظ على بيئة مفتوحة تجذب العقول. وتجدر الإشارة إلى أن استراتيجية دبي 2040 للتعليم تؤكد على الاهتمام بالتعليم العالي، مما يضع مدينة دبي الأكاديمية في قلب تلك الخطة المستقبلية.

وفي ظل هذه المعطيات، تبقى مدينة دبي الأكاديمية العالمية رمزاً للتكامل بين الطموح الفكري والرؤية الاقتصادية. فهي تؤكد أن التنمية المعرفية لا تقل أهمية عن التنمية المادية، بل هي السبيل المستدام للأجيال القادمة. ولعل القول الأخير يعود إلى الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، الذي يعتبر التعليم “قوة تحريك رئيسة” للتنمية، فمهما تطورت الموارد والوسائل في الحضارات، فإن الإنسان يبقى محور التطور الحقيقي. ومن هذا المنطلق، تظل مدينة دبي الأكاديمية مثالاً معاصراً على سعي الإمارات لجعل العلم رحلة مستمرة وتنافسية على الدوام.