الإثنين, 21 يوليو, 2025


مركز محمد بن راشد للفضاء استراتيجية إماراتية للسيادة المعرفية
تقرير حصري يوليو, 2025
مركز محمد بن راشد للفضاء

الوصول إلى المريخ ليس هدفاً علمياً فحسب، إنما رسالةٌ إلى أجيالنا المقبلة بأننا قادرون، ولا شيء مستحيل مع الأمل

  • محمد بن راشد آل مكتوم

بعد أقل من عام على هذه الكلمات، أضيئت معالم دولة الإمارات العربية المتحدة باللون الأحمر مساء 9 فبراير 2021 احتفالاً بدخول مسبار الأمل مدار الكوكب الأحمر، لتصبح الإمارات خامس جهة في العالم والأولى في المنطقة تُدير مركبة علمية حول المريخ وهي بعد في عامها الخمسين من قيام اتحادها.

في رحلة حوّلت دبي إلى منظومة معرفة تملك مختبرات متخصصة بعلوم الفضاء في الخوانيج، حيث يقع مركز محمد بن راشد للفضاء، تُصمم فيها الأقمار الصناعية بأيد إماراتية. إن هذا الانتقال من الرمل إلى المدار لا يُقاس بزمن الرحلة وحده، بل بقدرته على إعادة صياغة علاقة المجتمع بالعلم، فالمختبر هنا ليس غاية تقنية، بل منصّة تُرسِّخ الحلم المؤسَّس على منهج وتجربة، وتضع خريطة طريق عربية يبدأُ مداها من دبي ثم يمتدّ حرفياً إلى ما وراء المريخ.

من صورة مع ناسا إلى مؤسسة فضائية

حين التقى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رئيس دولة الإمارات من 1971 وحتى 2004، بثلاثة من رواد أبولو 17 في قصر البحر بأبوظبي عام 1976، لُقِّبت الصورة التي التُقطت يومها باللقاء الذي أطل منه الخليج على الفضاء. يظهر الشيخ زايد وهو يتفحص نموذج مكوك أمريكي، في مشهد بدا للعارفين آنذاك مجرد مجاملة دبلوماسية، لكنه انطوى على بصيرة مبكرة ترى في السماء امتداداً طبيعياً للصحراء، وأداة للتمكين معرفي. في تلك المرحلة لم يكن في دولة الإمارات أي برنامج أكاديمي يمنح درجة علمية في هندسة الفضاء، وأول تخصص محلي في هذا المجال سيولد بعد ذلك بسبعة وثلاثين عاماً في شراكة بين “مبادلة” وجامعة الإمارات عام 2013، ما يعني أن حلم الفضاء بدأ سياسياً قبل أن تتوافر له بنية معرفية وطنية.

بعد ثلاثة عقود تقريباً، استثمر الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، حاكم دبي، تلك البذرة الرمزية ليحولها إلى مؤسسة نظامية: ففي 6 فبراير 2006 أصدر قرار إنشاء مؤسسة الإمارات للعلوم والتقنية المتقدّمة (EIAST) لتكون المختبر الذي يدرب المهندسين الإماراتيين على تصميم الأقمار ويتيح لهم الاحتكاك بصناعتها في كوريا واليابان. وبعد أقل من عقد، أمر بدمج المؤسسة ضمن كيان أوسع هو “مركز محمد بن راشد للفضاء” بموجب قانون رقم 17 لسنة 2015، واضعاً للمركز ثلاثة أهداف استراتيجية وردت صراحة في القانون: إنشاء بنية تحتية وطنية متكاملة لتصنيع الأقمار، وقيادة أول مهمة عربية إلى كوكب آخر، وتخريج كوادر تنتقل من موقع مستخدم للتقنية إلى موقع منتج لها.

دبي سات 1 من التعاون إلى التمكين

بدأت الإمارات مسيرتها الفضائية فعلياً عندما انطلق دبي سات-1 عند الساعة 18:46 بتوقيت غرينتش من قاعدة بايكونور في 29 يوليو 2009. كان القمر البالغ وزنه 190 كيلوجراماً، يستقر في مدار قطبي متزامن مع الشمس على ارتفاع يقارب 680 كيلومتراً، ويعتمد على قدرة كهربائية إجمالية في حدود 330 واط لتشغيل كاميرا DMAC  التي تلتقط صوراً بانكروماتية بدقة ‎2.5‎ متر ومتعددة الأطياف بدقة خمسة أمتار، وهي دقة كافية لرصد تحولات السواحل ومراقبة التوسع العمراني بسرعة تفوق أي إمكانات كانت متاحة محلياً آنذاك. غير أن القيمة الأعمق لم تكمن في الصور وحدها، بل في برنامج نقل المعرفة: فقد شارك مهندسون إماراتيون بنسبة تقارب 30% من فريق التصنيع، وأمضوا أعواماً داخل مصانع “ساتريك إنِيشيتيف” في كوريا الجنوبية يتعلمون هندسة الأنظمة الفضائية تصميماً واختباراً، قبل أن يتولوا تشغيل القمر ومحطته الأرضية في دبي بعد الإطلاق.  بذلك تحولت التجربة إلى مختبر تعلّم وطني يربط البحث العلمي بالتنمية الساحلية والخدمات الحكومية، ويضع حجر الأساس لاقتصاد بيانات فضائية محلية المصدر.

وحين أُطلق “دبي سات-2” إلى مداره المتزامن مع الشمس على ارتفاع 600 كيلومتر في 21 نوفمبر 2013، كان أشبه بدرس في سرعة تراكم الخبرة: بلغت كتلته نحو 300 كيلوجرام، وأتاح نظام HiRAIS  تصويراً بانكروماتياً بدقة متر واحد ومسحاً آنياً لمساحة تخزين تصل إلى 17 ألف كيلومتر مربع في كل دورة، مع قدرة تنزيل بيانات أسرع بخمس مرات من سلفه. الأهم أن 16 مهندساً إماراتياً قادوا التصميم والاختبارات الميكانيكية والبرمجية للقمر، لترتفع نسبة المشاركة الوطنية إلى ضعف ما كانت عليه بالمهمة الأولى، وتتحول الشراكة الكورية-الإماراتية من تعليم أساسي إلى تعاون بحثي يُمكّن الفريق المحلي من ابتكار أول نظام دفع كهربائي تجريبي في تاريخ الأقمار العربية.

مركز محمد بن راشد للفضاء

خليفة سات: صناعة إماراتية خالصة

في 29 أكتوبر 2018 بتوقيت الإمارات تم إطلاق صاروخ H-IIA 202 فوق جزيرة تانيغاشيما اليابانية حاملاً “خليفة سات”، قمر يزن 330 كغم ويستقر في مدار شمسي متزامن على ارتفاع 613 كم، قادر على اجتياز الكرة الأرضية بنحو 14 دورة ونصف يومياً. غير أن الأهم من نقطة الإقلاع هو أن القمر خُطط وجُمع ودُقق في “مختبرات تقنية الفضاء”بدبي، منشأة أُقيمت سنة 2014 لصناعات الفضاء، تضم غرفاً حرارية فراغية ومناضد اهتزاز حجمية، وقد سمحت بإنجاز 100 % من أعمال التكامل داخل الدولة بعد أن اكتفت “دبي سات-1″ و”دبي سات-2” بمرحلتي تصميم في كوريا الجنوبية.

الفريق الذي بدأ بثمانية مهندسين أثناء التدريب في “ساتريك إينيشيتيف” تضخم إلى أكثر من 70 شابة وشاباً إماراتياً عند الانتهاء من القمر، ما حوّل المنشأة إلى مدرسة سيادية في هندسة النظم الفضائية. وعلى المستوى التقني تجاوزت الكاميرا KHCS  حاجز الدقة تحت المتر (-70 سم بانكروماتي و2.98 م متعدد الأطياف) مع قدرة تخزين 512 غيغابت، فيما سمح مرسل X-Band بسرعات تحميل البيانات تصل إلى 320 ميغابت/ثانية، أي ضعف القمر السابق “دبي سات 2” الذي كانت سرعة تحميل بياناته تبلغ 160 ميغابايت/ ثانية.

ما خفض زمن تسليم الصورة من المدار إلى محطة دبي إلى أقل من 20 دقيقة في الظروف الطقسية المثلى. هذه السرعة مكنت القمر، خلال عامه الأول وحده، من بث 7250 صورة عالية الدقة تُستخدم في تخطيط المدن ومراقبة ظواهر تغير السواحل، كما أُدرجت بياناته ضمن “تحالف بانجيو” الذي يوفر تغطية يومية عالمية عبر 13 قمراً. لكن القيمة المضافة الأبرز جاءت في شكل معرفة موثقة: فقد ولّد “خليفة سات” خمس براءات اختراع، من بينها تقنية تلقم تلقائي للهدف تعدّل مسار التصوير في الزمن الحقيقي، وسبعة ابتكارات هندسية في هيكل الكاميرا ودرعها الكربوني، ما رسخ انتقال الإمارات من دور مستهلك للتقنية إلى دولة تمتلك جميع مراحل تصنيع الأقمار الصناعية من التصميم حتى الإطلاق، وتبيع صوراً فضائية عالية الدقة لجهات تجارية حول العالم. هكذا لم يكن القمر مجرد منصة استشعار عن بُعد، بل عقداً اجتماعياً جديداً يعيد تعريف علاقة الشباب الإماراتي بعلوم الفضاء، وينبه قطاع التخطيط الحضري والبيئة والاقتصاد إلى أن السيادة في القرن الحادي والعشرين تُقاس بقدرة الأمة على امتلاك محرك ابتكاراتها، لا بكمية البيانات التي تستوردها من الآخرين.

من خلوة وزارية إلى المريخ

في خلوة وزارية على جزيرة صير بني ياس أواخر 2013، وزّع الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، بصفته رئيساً لمجلس الوزراء، على وزراء حكومته صفحات أولى بيضاء لصحفة محلي بتاريخ من المستقبل، 2 ديسمبر 2021، طالباً منهم كتابة العنوان الذي يتمنون أن يروه في اليوبيل الذهبي للاتحاد. دوّن الشيخ منصور بن زايد، نائب رئيس مجلس الوزراء، عبارةً جريئة: “الإمارات تصل إلى الفضاء”. حلمٌ بدا بعيداً حينها، لكنه كان يوحي بما يدور في ذهن قيادات الدولة آن ذاك.

كلف الشيخ محمد بن راشد، معالي محمد القرقاوي، وزير شؤون مجلس الوزراء، بدراسة جدوى وقابلية تطبيق المشروع. فتوجه معالي القرقاوي إلى مركز الإمارات للتكنولوجيا المتقدمة في الخوانيج، وبعد دراسة قام بها مستكشفاً القدرات الوطنية الحالية الموجودة، عاد إلى الشيخ محمد مخبراً إياه بأن المهمة صعبة لكنها قابلة للتحقيق بكلفة قُدِّرت بنحو 200 مليون دولار، وهو رقم أكّدته تقارير لاحقة باعتباره أحد أقل موازنات المريخ عالمياً. وبناء على ذلك، صدر قانون رقم 17 لسنة 2015 ليُعيد هيكلة المؤسسة تحت مسمى مركز محمد بن راشد للفضاء ويمنحها ولاية على الأقمار الصناعية والاستكشاف الكوكبي وبرامج روّاد الفضاء. وكانت النواة التشغيلية للمركز قد انطلقت قبل ذلك بوقت وجيز كمبادرة علمية تحت مظلة مؤسسة الإمارات للعلوم المتقدمة والتكنولوجيا (EIAST)، الأمر الذي سهّل نقل الكوادر والبرامج القائمة إلى الهيكل الجديد فور صدور القانون.

مهمة الأمل

في 20 يوليو 2020 أقلع مسبار الأمل بكتلة 1350 كغ على صاروخ H-IIA من مركز تانيغاشيما الياباني، قاطعاً 493 مليون كيلومتر قبل أن يدخل مدار المريخ في 9 فبراير 2021. يطوف المسبار في مدار بيضوي يتراوح بين 20 ألف و43 ألف كيلومتر، ويتم دورة كل 55 ساعة، ما يسمح له بتصوير الغلاف الجوي للكوكب الأحمر كاملاً كل تسع ساعات تقريباً، وهي تغطية لم يحققها أي مسبار سابق.

خلال أول عام في المدار نشر المركز 110 غيغابايت من البيانات العلمية المفتوحة، تلتها دفعات ربع سنوية رفعت المخزون مع نهاية 2024 إلى أكثر من 4.1 تيرابايت متاحة مجاناً للباحثين عبر مركز بيانات مهمة الإمارات للمريخ. هذا السيل من المعلومات غذى حركة نشر نشطة، إذ نُسب إلى بيانات المسبار أكثر من 270 بحثاً حتى منتصف 2025، متنوعاً بين خرائط شمولية للغلاف الجوي ورصد جديد للشفق المريخي وصور مقرّبة غير مسبوقة لقمر ديموس، القمر الخارجي للمريخ.

بهذا تحوّل الأمل من رمز وطني إلى أداة بحثية كوكبية، فهو يملأ فجوة زمنية في رصد المناخ المريخي، ويمنح الجامعات حول العالم أرشيفاً مجانياً ذا زاوية رؤية فريدة، ويُرسخ مكانة مركز محمد بن راشد للفضاء كلاعب معرفي لا يقل وزناً عن وكالات فضائية أعرق، مؤكداً أن استثمار الإمارات في الفضاء استثمار في اقتصاد البيانات والعلوم لا في استعراض تقني عابر.

برنامج رواد الفضاء: من زيارة رمزية إلى شراكة علمية

بعد أن رسّخ مركز محمد بن راشد للفضاء قدرته على بناء الأقمار وإرسال مسبار إلى المريخ، اتجهت الاستراتيجية نحو المجال المأهول. البداية جاءت في 25 سبتمبر 2019 حين أقلّت المركبة سويوز MS-15 هزاع المنصوري إلى محطة الفضاء الدولية، ليصبح أول إماراتي وأول عربي يقيم على متنها. خلال ثمانية أيام أجرى 31 تجربة علمية، 16 منها بالتعاون مع وكالات دولية، بينما خُصصت 15 تجربة لطلبة مدارس داخل الدولة، فحوَّلت الزيارة من حدث رمزي إلى درس تطبيقي.

هذا الإنجاز فتح الباب لمهمة أطول: في 2 مارس 2023 انطلق رائد الفضاء سلطان النيادي على متن كرو-6 باتجاه المحطة ليقضي 186 يوماً، مسجِّلاً أطول إقامة عربية في المدار. أنجز النيادي أكثر من 200 تجربة بحثية استغرقت نحو 600 ساعة، وتنوّعت بين دراسات مناعية وتجارب سوائل متناهية الدقة، وانتهت المهمة بأول سير فضائي عربي استغرق 7 ساعات ودقيقة واحدة في 28 أبريل 2023.

تزامن ذلك مع توسّع برنامج رواد الفضاء الإماراتي الذي أُطلق في 2017 واستقطب أكثر من 4,000 متقدِّم؛ فبعد دفعة المنصوري والنيادي، اختارت الإمارات عام 2021 أول رائدة فضاء عربية، نورا المطروشي، وزميلها محمد الملا، ليبدآ تدريباً كاملاً في مركز جونسون الفضائي ضمن اتفاقية مع ناسا تمتد حتى سبتمبر 2025.

هكذا تحوّل مقعد الضيف الذي شغله المنصوري إلى شراكة علمية متكاملة يقودها النيادي، وأضحى رواد الفضاء الإماراتيون جزءاً من طاقم المحطة ومسارات أبحاثها. والنتيجة أن برنامج الرواد أدخل دولة الإمارات في شبكة الإنتاج العلمي للمحطة، مؤكداً أن الاستثمار في الإنسان لا يقل أهمية عن الاستثمار في الصاروخ.

خطوات ما بعد المريخ

منذ إعلان مهمة الإمارات القمرية عام 2021 تقدّم مركز محمد بن راشد للفضاء بخطى متصاعدة من سطح القمر إلى حزام الكويكبات، واضعاً مساراً متكاملاً يربط الاكتشاف العلمي ببناء سلاسل قيمة صناعية محلية. فقد بُنِي “راشد-1” بكتلة لا تتجاوز عشرة كيلوغرامات وأُطلق على متن مركبة Hakuto-R، ورغم تعذّر الهبوط في 25 أبريل 2023، وفّر التحطم بيانات ملاحية حية حول ديناميكيات الاقتراب النهائي على سطح بالغ الوعورة. التجربة تحولت مباشرةً إلى نسخة مطوَّرة: “راشد-2″، المزوّد بحساسات حرارية وميكانيكية جديدة، سيسافر مع مركبة Blue Ghost إلى الجهة البعيدة من القمر في 2026، حاملاً درس المحاولة السابقة إلى مستوى هندسي أعلى.

وفي مايو 2023 كشفت الإمارات عن مهمة حزام الكويكبات: مركبة MBR Explorer ستُطلق في مارس 2028 لتقطع خمسة مليارات كيلومتر عبر ثلاث كواكب وسبعة كويكبات قبل أن تدخل مدار الكويكب 269 جوستيتيا وتهبط عليه في 2035، مستفيدة من سلسلة دفعات جاذبية تبدأ بالزهرة وتنتهي بالمريخ. الرقم هنا ليس استعراضاً لمسافةٍ قياسية بقدر ما هو اختبار لقدرة المركز على إدارة رحلة طويلة متعددة الأهداف بأسلوب منصة الأبحاث المفتوحة نفسه الذي اتُّبع في مسبار الأمل.

كذلك دشن المركز مرحلة الأعمال التجارية بإطلاق MBZ-SAT في 14 يناير 2025: قمر يزن 750 كغ ويقدّم صوراً بدقّة تقل عن متر واحد، مع نظام جدولة ومعالجة يسلم الصور خلال ساعتين فقط من التقاطها. واللافت أن 90% من مكوناته الميكانيكية صُنعت لدى شركات إماراتية، ما حوّل برنامج تطوير الأقمار من بند استيراد تقني إلى محرك لتوطين صناعة الفضاء المتقدمة.

بهذه السلسلة من دروس راشد-1 إلى اقتصاد الصور عالية الدقة في MBZ-SAT ومروراً برحلة  MBR Explorer تتضح فلسفة مركز محمد بن راشد للفضاء: كل خطوة علمية تُصاغ لتعيد توزيع فائض المعرفة داخل المجتمع والقطاع الخاص معاً، بحيث يصبح الاستثمار في الفضاء استثماراً مباشراً في مهارات المهندسين وسلاسل التوريد الوطنية، لا مجرد مغامرة على أطراف النظام الشمسي.

فضاء يعيد هندسة المجتمع

يقوم مركز محمد بن راشد للفضاء على رؤيةٍ تتجاوز حدود المختبرات والصواريخ إلى إعادة تصميم العلاقة بين المجتمع الخليجي والمعرفة ذاتها. فحين يصبح الوصول إلى المريخ أو حزام الكويكبات جزءاً من حياة تعليمية يومية أي مادةً دراسية في المدارس وفرصاً بحثية في الجامعات وشركات ناشئة في القطاع الخاص، يتحول الفضاء إلى أداة لبناء سلوكيات جديدة في التعلم والعمل واتخاذ القرار. وهنا تتقاطع الفلسفة الاجتماعية مع الاقتصاد السياسي: الاستثمار في المدار ليس غاية علمية فقط، بل سياسة تعيد توزيع رأس المال المعرفي داخل الدولة، وتخلق دوائر تأثير تمتد من حجرة الصف إلى أسواق التكنولوجيا المتقدمة.

وعلى هذا الأساس لا يُنظر إلى برامج الفضاء بوصفها مغامرات هندسية معزولة، بل سردية حضارية تعيد تعريف الممكن في منطقة طالما وُصفت باستهلاك التقنية أكثر من إنتاجها. فمن ضفاف الخليج إلى مدارات المريخ وحزام الكويكبات، يشق الإماراتيون طريقاً مادياً ورمزياً في السماء، يرسمون خرائط لا تُستخدم للملاحة الفضائية فحسب، بل لابتكار مستقبل يُقاس فيه ثراء الأمم بقدرتها على توسيع حدود المعرفة وتحويلها إلى قيمة اجتماعية واقتصادية مستدامة.