في ظل التحولات المتسارعة نحو اقتصاد المعرفة وتنامي مبدأ التخصصية في إدارة الأعمال، برز مفهوم التعهيد (Outsourcing) كأحد ملامح الاقتصاد الحديث. حيث تقوم فلسفة التعهيد على أن تَعهد المؤسسات بجزء من عملياتها الداخلية إلى جهات خارجية متخصصة تحقق كفاءة أعلى في أداء تلك المهمة، مما يسمح للمؤسسة بالتركيز على صميم نشاطها الأساسي. وقد أصبحت هذه الفكرة ركيزة أساسية في عصر العولمة، حيث لم تعد المعرفة حكراً على أحد ولا الموقع الجغرافي عائقاً أمام توظيف أفضل الخبرات.
شهد مطلع القرن الحادي والعشرين تنامياً هائلاً في نشاط التعهيد عالمياً، مدفوعاً بثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات. إذ اتجهت كبرى الشركات إلى إعادة هيكلة عملياتها بالاستعانة بمصادر خارجية لتحقيق مزايا تنافسية في التكلفة والجودة. وفي هذا السياق، أدركت إمارة دبي مبكراً الإمكانات الواعدة لصناعة التعهيد كقطاع اقتصادي جديد. ومن هنا انطلقت فكرة مدينة دبي للتعهيد كحلقة ضمن رؤية دبي الأوسع لتنويع الاقتصاد القائم على المعرفة وجذب الاستثمارات الأجنبية في قطاعات الخدمات المتقدمة.
البدايات وأساس الفكرة
في يونيو عام 2007، أعلنت مدينة دبي للإنترنت التابعة لدبي القابضة عن إطلاق مشروع “منطقة دبي للتعهيد ” التي عُرفت لاحقاً بمدينة دبي للتعهيد” لتصبح أول منطقة متخصصة بهذا النوع من الأعمال في العالم. وجاء إطلاق هذه المدينة كمبادرة استراتيجية لتهيئة أفضل بيئة عمل لشركات التعهيد، وذلك استجابةً للطلب المتزايد في السوق على حلول وخدمات التعهيد بمختلف أنواعها. فقد كانت رؤية دبي آنذاك واضحة في أن توفير بنية تحتية متقدمة وحاضنة أعمال ٍمتكاملة لشركات الخدمات الخارجية سيجعلها قاعدة انطلاق إقليمية وعالمية في هذا المجال. وقد أشار معالي محمد عبدالله القرقاوي، رئيس دبي القابضة آن ذاك، والذي أشرف على تأسيس العديد من المجمعات الاقتصادية في دبي، إلى الأهمية المتنامية للتعهيد عالمياً بقوله إن قيمة عقود التعهيد عالمياً ارتفعت من 45 مليار دولار عام 2000 إلى نحو 90 مليار دولار عام 2017، أي بما يعادل الضعف تقريباً. هذه القفزة تعكس ازدهار نشاط التعهيد دولياً خلال العقدين الأخيرين، الأمر الذي أعطى مبرراً قوياً لتأسيس منطقة متخصصة في دبي تستقطب شركات هذا القطاع.
لم تكن فكرة مدينة دبي للتعهيد منعزلة عن سياق تطوير مجمعات الأعمال في الإمارة، بل جاءت استكمالاً لسلسلة نجاحات حققتها مناطق حرة سابقة مثل مدينة دبي للإنترنت ومدينة دبي للإعلام وقرية المعرفة. وقد كُلفت شركة تيكوم للاستثمارات (التي أصبحت لاحقاً مجموعة تيكوم) وهي الذراع المسؤول عن تطوير مجمعات الأعمال التابعة لدبي القابضة، بإنشاء وإدارة هذه المنطقة الجديدة. ومنذ اللحظة الأولى، جرى تصميم مدينة دبي للتعهيد كمجتمع أعمال متكامل يهدف إلى ريادة تطوير قطاع التعهيد في المنطقة، عبر توفير كل ما يلزم الشركات المتخصصة من بنية تحتية وخدمات داعمة ضمن بيئة أعمال عصرية.
البنية التحتية والخدمات في المدينة
تميزت مدينة دبي للتعهيد منذ تأسيسها ببنية تحتية شاملة ومصممة خصيصاً لتلبية احتياجات شركات التعهيد بمختلف تخصصاتها. فالمدينة عبارة عن مجمع أعمال متكامل يضم مبانٍ مكتبية حديثة ومساحات مرنة لتناسب مختلف احتياجات إسناد العمليات التجارية والموارد البشرية وتقنية المعلومات وعمليات الدعم ومراكز الاتصال. وقد زُوّد المجمع بأحدث شبكات الاتصالات وتقنيات المعلومات لضمان جودة وسلاسة العمليات للشركات العاملة فيه. كل ذلك يجعل من السهل على الشركات الانتقال بكامل عمليات التعهيد الخاصة بها إلى مجتمع مركزي واحد والاستفادة من التواجد جنباً إلى جنب مع شركات أخرى في المجال نفسه.
بوصفها منطقة حرة متخصصة، تتمتع مدينة دبي للتعهيد بكافة المزايا التي اعتادت دبي تقديمها للمستثمرين في المناطق الحرة. ومن أبرز هذه المزايا التملك الأجنبي الكامل للشركات والإعفاء الضريبي على الدخل والأرباح، مما يشكّل عامل جذب قوي للشركات العالمية الباحثة عن مقر إقليمي. وإلى جانب ذلك، توفر المدينة خدمات حكومية مساندة داخل الموقع لتسهيل إجراءات تأسيس الأعمال والتأشيرات، فضلاً عن تنظيم فعاليات شبكات الأعمال وبرامج للتواصل بين الشركات العاملة لتبادل المعرفة والفرص. كما يستفيد شركاء الأعمال في المدينة من وجود مركز خدمات شامل (One-Stop Shop) يلبي احتياجاتهم الإدارية، مما يخفف الأعباء البيروقراطية عن كاهل المستثمر ويمكّنه من التركيز على نمو أعماله الأساسية.
كما يضيف موقع المدينة الاستراتيجي قرب مدينة دبي الأكاديمية العالمية، التابعة لتيكوم، إلى جاذبيتها ميزة فريدة. فمجاورة مجمع جامعي ضخم يضم أكثر من 28 ألف طالب وطالبة يتيح لشركات التعهيد إمكانية الاستفادة من شريحة واسعة من المواهب الشابة للعمل بدوام جزئي أو مؤقت. وهذا التكامل بين المدينة الأكاديمية ومدينة التعهيد يخلق بيئة حيوية تربط التعليم بسوق العمل، حيث يستطيع الطلبة اكتساب خبرات عملية في مجالات كالبرمجيات وخدمة العملاء والموارد البشرية ضمن شركات مرموقة، بينما تحصل الشركات على مورد مستمر من الكفاءات الواعدة. وتمثّل هذه الشراكة أحد جوانب البعد الاجتماعي للمشروع، إذ تساهم في تمكين الشباب وتطوير مهاراتهم بالتوازي مع تلبية احتياجات قطاع التعهيد المتنامية من الكوادر المؤهلة.
مؤشرات الأداء والتطور المستمر
حققت مدينة دبي للتعهيد نمواً مطّرداً لتصبح اليوم مركزاً رائداً لصناعة التعهيد على مستوى المنطقة. تضم المدينة حالياً ما يزيد عن 140 شركة متخصصة في مجالات التعهيد المختلفة، تخدم أسواق دولة الإمارات والأسواق الإقليمية الأوسع. ومن بين هذه الشركات أسماء بارزة تشمل مؤسسات محلية وعالمية، فعلى سبيل المثال، تتخذ شركة طيران الإمارات، أكبر ناقل جوي في المنطقة، من المدينة مقراً لمراكز الحجز وخدمات العملاء التابعة لها، كما تحتضن المدينة شركات عالمية رائدة مثل (Genpact) و (InterGlobe) وغيرها.
على صعيد الموارد البشرية، يتسم مجتمع مدينة دبي للتعهيد بالتنوع والثراء. ويضم المجمع أكثر من 8000 موظف وموظفة يعملون في مختلف الشركات الموجودة فيه، وينتمي هؤلاء إلى 50 جنسية تقريباً حول العالم، مما يخلق بيئة عمل متعددة الثقافات. ويلحظ المراقب لتوزيع الكوادر أن نسبة النساء بلغت حوالي 35% من إجمالي القوى العاملة في المدينة، وهي نسبة مهمة تعكس حضوراً متزايداً للكوادر النسائية في قطاع التكنولوجيا وخدمات الأعمال داخل دبي.
أما من حيث الأداء الاقتصادي للقطاع، فقد شهد سوق التعهيد في دولة الإمارات نمواً ملحوظاً في السنوات الأخيرة مما عزز مكانة مدينة دبي للتعهيد كمساهم رئيسي في هذا القطاع. فبحسب تقرير “آفاق سوق التعهيد في الإمارات 2016–2020” الصادر عن مؤسسة البيانات الدولية (IDC)، بلغ إجمالي الإيرادات التشغيلية لخدمات التعهيد في العمليات التجارية والحوسبة السحابية في الدولة نحو 3.2 مليار درهم في عام 2017. وتوقع التقرير نفسه أن ترتفع هذه الإيرادات إلى 3.58 مليار درهم في 2018 ثم إلى 4.38 مليار درهم بحلول 2020، مما يمثل معدّل نمو سنوي مركب يناهز 11%. وتعكس هذه الأرقام الدور المتزايد الذي بات يلعبه التعهيد كدعامة للتنويع الاقتصادي في الإمارات، وكأحد أسرع القطاعات نمواً ضمن اقتصاد الخدمات الحديث.
وتفيد الدراسات بأن الطلب المحلي على خدمات التعهيد في الإمارات يأتي بالدرجة الأولى من قطاعات حيوية مثل المصارف والخدمات المالية والنقل والاتصالات والإعلام وتجارة التجزئة. أما من حيث طبيعة الخدمات، فتستحوذ خدمات مراكز الاتصال (Call Centers) على الحصة الكبرى بنحو 65% من سوق التعهيد المحلي، تليها خدمات الموارد البشرية بنسبة 14%، ثم خدمات المحاسبة والتمويل وغيرها من الخدمات الداعمة. هذا الانتشار الواسع يعكس اعتماد العديد من الشركات والمؤسسات الكبرى على حلول التعهيد لتحسين جودة خدماتها ورفع كفاءتها التشغيلية، سواء في التعامل مع العملاء أو إدارة شؤون الموظفين أو غيرها من الوظائف غير الأساسية. وقد أدى ذلك إلى توسع قاعدة عملاء شركات التعهيد لتشمل كذلك جهات حكومية بدأت تدرك مزايا إسناد بعض الخدمات غير الأساسية لشركات متخصصة، بما يسمح لتلك الجهات بالتركيز على خدماتها العامة الجوهرية.
ويشير عمار المالك، المدير التنفيذي لمدينة دبي للتعهيد ومدينة دبي للإنترنت، إلى أن دولة الإمارات باتت اليوم مركزاً عالمياً مزدهراً للأعمال، مدعوماً بالتطور التقني السريع وتوفر نخبة من أفضل المواهب. وقد نضج قطاع التعهيد في الدولة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بتحسن جودة الخدمات وتطور التقنيات كالذكاء الاصطناعي والأتمتة التي تبنتها الشركات الحديثة في عملياتها. ويلخص المالك المشهد بقوله إن صناعة التعهيد أضحت ركيزة لضمان استمرارية الأعمال عبر مختلف مراحل سلسلة القيمة، وداعماً لاستدامة القطاعات الاقتصادية القائمة على المعرفة. ومن هذا المنطلق، تحولت مدينة دبي للتعهيد إلى أكثر من مجرد منطقة حرة تجارية؛ إنها منصة تمكينية لصقل مستقبل الأعمال باستخدام أحدث الابتكارات، ومختبر حيوي تتفاعل فيه الخبرات البشرية مع التقنيات المتقدمة لخلق حلول أعمال فعالة تتجاوز الحدود التقليدية.
المدينة اليوم ودورها في اقتصاد المستقبل
بعد مرور ما يقرب من عقدين على تأسيسها، رسخت مدينة دبي للتعهيد مكانتها كعنصر فاعل في منظومة اقتصاد دبي المتنوع. فالمدينة لم توفر للشركات بنية تحتية عالمية المستوى فحسب، بل أسست منظومة متكاملة للتعاون والشراكات في مجال التعهيد، تجمع تحت سقفها مزوّدي الخدمات ومتلقيها المحتملين ضمن مجتمع أعمال واحد. هذا التجاور أفضى إلى خلق تكتل اقتصادي (Cluster) متخصص، يتيح تبادل الخبرات والأفكار بين عشرات الشركات العاملة في مجالات متقاربة، مما يسرّع من وتيرة الابتكار ويرفع القدرة التنافسية للجميع. وهو ما يتوافق مع منهجية دبي في بناء اقتصاد قائم على تجمعات قطاعية (clusters).
كما يتوافق تطور مدينة دبي للتعهيد مع توجهات أوسع لدولة الإمارات نحو تبني نماذج العمل المرنة والمستقبلية. فالحكومة نفسها باتت تنظر إلى التعهيد بوصفه حلاً ممكناً لتقديم بعض الخدمات بكفاءة أعلى. وقد تساءل القرقاوي في أحد المؤتمرات: هل تستطيع الحكومات وحدها مواجهة كل التحديات التنموية؟ ليجيب موضحاً أن إشراك القطاع الخاص عبر التعهيد يمكن أن يخفّف الأعباء عن كاهل المؤسسات الحكومية ويرفع جودة الخدمات المقدمة للجمهور. وهكذا نرى أن نموذج التعهيد الذي انطلقت به الشركات التجارية قد امتد تأثيره حتى إلى فكر الإدارة الحكومية الحديثة، في تأكيد على نجاح هذا النموذج ومرونته.
في التجربة التي جسدتها مدينة دبي للتعهيد، يتضح أن التنمية الاقتصادية ليست مجرد معادلة أرقام واستثمارات، بل هي بناء منظومة إنسانية تنتظم فيها المصالح الفردية والجماعية على نحو متكامل. لقد أظهرت هذه المدينة أن الكفاءة التشغيلية يمكن أن تسير جنباً إلى جنب مع تمكين الكفاءات البشرية، وأن السوق حين يُصمَّم ليكون بيئة مفتوحة وعادلة، يصبح فضاءً لابتكار الحلول وتبادل الخبرات عبر الثقافات. وكما قال الاقتصادي الهندي والحائز على نوبل، أمارتيا سن: “الحرية هي في آنٍ واحد غاية التنمية ووسيلتها”، فإن ما توفره مدينة دبي للتعهيد من حرية الاختيار للشركات والمواهب، ومرونة في تشكيل نماذج الأعمال، هو ما جعلها أكثر من مجرد مشروع اقتصادي، إنها منصة لإعادة تعريف العمل ذاته، بحيث يكون أداة للنمو المادي والتحرر المهني معاً. وهكذا فإن مستقبل المدينة يكمن في قدرتها المستمرة على المزج بين الربحية والاستدامة الاجتماعية، وبين التنافسية الاقتصادية وبناء مجتمع أعمال متنوع، وهو ما يمنحها مكانة فريدة في مسار دبي نحو اقتصاد عالمي متوازن.